صراع الفلسفة والدين

ثقافة 2023/04/05
...

حازم رعد 


لم تزل مشكلة الدين الهاجس الأكبر للفلسفة، إذ هما على طول الخط ما انفكّا عن المنازلة فتارةً يُحسم الصراع للدين حينما تتوفر عناصر قوته وأهمها تبني السلطة للميول الدينيَّة ومثال ذلك وصول جستنيان إلى عرش الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، إذ لم تبقَ أكاديميَّة ولا مدرسة للفلسفة إلا وأمر بإغلاقها، وأخرى يُحسم الصراع للفلسفة كلما توفرت ميول عند حاكم يُحبّ العقلانيَّة ويشاء بثها والعمل فيها، والمأمون العباسي خير شاهد على ذلك فيُحسب للرجل تقريبه للفلاسفة وتأسيس بيت الحكمة وغير ذلك من شواهد على تبني العقلانيَّة، ومن سوء قدرهما معاً إذا كانت هناك سلطة تعمل بالأهواء وتتصرف بحسب ما تشتهي النفس والرغبات فإنهما معاً “السلطة والدين يذهبان أدراج الرياح”، ولاسيما أننا نشهد بأهميَّة كلاً منهما في مختلف مجالات الحياة إذا ما تم توظيفهما بالشكل المناسب فيكونان معاً مصدر قوة للكيان الذي يتبناهما ويُحسن استعمالهما والعمل بهما فإنَّ (المعرفة في عالم اليوم لا تخرج عن أحد أمرين: الدين والعقل).

ما يهم الآن ونحن نكتب عن الصراع بين الدين والفلسفة هو أنه بين الحين والآخر تطفو على أرض الواقع خطوط صدع بينهما فمثلاً يركز الدين اهتمامه على ترسيخ فكرة احتكاره للحقيقة الواحدة ومصدرها الوحي إذ لا يتنازل عن كونه المدبر الوحيد للحياة فارضاً سطوته من خلال ما يبديه من يقينيَّة في إطلاق الأحكام وحل المشكلات وتقرير شكل الحياة التي يفترض بالإنسان السير على غرارها وعدم الخروج عنها لأنَّ في ذلك هلاك الإنسان ووقوعه في الخطيئة التي لا تغتفر، نحن نعلم أنَّ الدين ينطلق من فكرة أنَّ الوحي هو المصدر الوحيد “برأي الاتجاه الديني عموماً” للمعرفة والحقيقة، إذ لا تداني الوحي أي معامل أخرى تنتج الحقيقة لا العقل ولا التجربة فالأول قاصر تمام القصور عن الوصول إلى الحقيقة ولذا احتاج إلى من يدله على الطريق ويحدد له معالم التصرف والترك كما يحتاج الإنسان موازاة مع ذلك إلى الطمأنينة التي تُضفي السكينة والأمن الداخلي للإنسان وهذا ما لا توفره لا الفلسفة ولا العلم إذ الدين يحتكر مصدريَّة ذلك، نعم قد يحتاج الدين إلى العقل “الفلسفة” في الردِّ على الشبهات التي توجَّه إليه وكذلك يحتاج إليه في تبرير بعض نصوصه ومنهجتها عقلياً ولكن بوصف أنَّ العقل “الفلسفة” خادمة للدين شأنها أن تمارس وظيفة تجعل ما يقوم به العقل مشروعاً مقبولاً لأنه يسير بطول الفعل الديني لا بعرضه وبموازاته حتى قيل: إنَّ “الفلسفة خادمة اللاهوت” أي أنَّ مهمتها الأولى والأساسيَّة كما يقول غيضان السيد علي البرهنة على صحة القضايا الدينيَّة وتبريرها عقلياً، وإن كانت رؤية الفلاسفة المسلمين تقوم على العكس من ذلك، إذ إنَّ الحقَّ لا يضاد الحقّ والدين حقّ والفلسفة حقّ فهما منسجمان ولا تعارض بينهما، فالدين بحسب هذا الاتجاه “حاضر في الفلسفة دوماً وإنَّ الفلسفة دائمة الحضور في الدين”.

ومع ذلك يبقى الدين إحدى المشكلات التي تسبب وتتسبب للفلسفة بمعضلات حقيقيَّة على مستوى الفكر والفعل الواقعي “التصرف”. 

وفي حقيقة الأمر وبعيداً عن تجميل الواقع ومحاولةً في إثراء هذا الموضوع يجدر أن نضع أيدينا على نقاط الاختلاف بين الفلسفة والدين وهذا لا يعني عدم وجود نقاط اتفاق وانسجام بينهما فهي كثيرة علَّ أولاها أنهما حقيقتان تصبوان إلى المعرفة وتسيران حثيثاً للظفر بالحقيقة وخدمة الإنسان وإيجاد الإجابات الناجعة عن الأسئلة الوجوديَّة التي تلح على فاهمته والإقلال من معاناته النفسيَّة ولكن ذلك لا يمنع من التوثب والوقوف على نقاط الاختلاف والامتياز، إذ الفلسفة تختلف عن الدين في عدة مستويات أولها الاختلاف في المنهج فإنَّ لكل منهما منهجه الخاص الذي من خلاله يبحث في الأشياء، فالمنهج في الفلسفة عقلي قائم على الجهد النظري الكلي المجرد المستقل عن الحقيقة الدينيَّة في الوصول إلى معرفة جوهر الأشياء بينما منهج الدين هو التسليم والتقييد بالنصوص الإلهيَّة والدينيَّة وهي تدعوه للخضوع والانقياد لها والحض على تجاوزها أو التمرد عليها ويمكن إيجاز هذا المستوى من الاختلاف في العبارة الآتية: إنَّ المنهج في الفلسفة عقلي خالص بينما المنهج في الدين هو التسليم للوحي والنصوص الدينيَّة.

وأما ثاني أوجه الاختلاف فيكمن في الموضوع فعلى الرغم من اتحادهما في تناول موضوعات مشتركة من قبيل محاولة إيجاد إجابات عن الأسئلة والإشكاليات الوجوديَّة الكبرى، إلا أنهما يختلفان في أنَّ موضوع الفلسفة يقتصر على “بحث الإنسان” والاهتمام لأمره وقضاياه، بينما في الاتجاه الآخر موضوع الدين عمل إلهي ليس للإنسان إزاءه إلا الانقياد والخضوع لأوامره ونواهيه.

 بينما يكمن مستوى الاختلاف الثالث في الغاية فالملاحظ أنَّ غاية الدين هي الإيمان سواء كان بتفهم للحقائق أو عن عدم تفهم، فإنَّ للإنسان قبال الدين أن يذعن القلب وينقاد للأوامر بينما الأمر مختلف بالنسبة إلى الفلسفة فغايتها الفهم والتعقل ولا مجال للوجدان والإيمان في حيزها وإطارها فمعيار الفلسفة يتمايل مع مدركات العقل بينما معيار الدين يكون مع الإيمان والطاعة. 

إذن الصراع بين الفلسفة والعلم لا يقتصر على جانب واحد من الصراع إذ يتركز على احتكار مصدريَّة المعرفة أو الحقيقة ويتشعب ليشكل نديَّة على كل المستويات الأخرى، المنهج والموضوعات والأغراض أيضاً ونحن ندرك تمام الإدراك أنه بالأساس الاختلاف في الرؤية يوجب الاختلاف في الأهداف ولما وصل الأمر إلى هذه النهاية إذا ما كان هناك اختلاف في المنهج والأدوات المتبعة لإثبات فكرة أو حقيقة ما.