روسا بونهوير رائدة الواقعيَّة الأولى

ثقافة 2023/04/05
...

 إحسان العسكري 


تعدُّ روسا بونهوير في طليعة من استخدموا الزيت على كانفاس، وأول من اهتم بتفاصيل حياة البراري بما فيها الطبيعة والسكان والكائنات الحية التي اتخذتها مسكناً. فهي ليست مجرد تشكيلية، هي حكاية انطلاق المرأة الفنانة في أوربا إبان القرن التاسع عشر. 

اعتمدت بونهوير المدرسة الواقعية باتجاهات محدودة، فاتخذت من الحيوانات وبيئتها وعلاقتها بالطبيعية والإنسان منطلقاً لرسالتها.. وكانت هذه الانطلاقة تعد معجزة بمقياس الشهرة في الأوساط الفنية في فرنسا وأوروبا على وجه العموم، فالحصول على مقعد في مضافة كبار فناني العالم ليس بالأمر السهل على المرأة في ذلك الزمان، إلا أن بونهوير تمكنت وبملَكة الإبداع والعشق الصادق للطبيعة أن تكون في الصدارة. فهي من الأوائل اللائي أخلصن للفن والجمال رغم ظروف الحياة الصعبة في تلك الحقبة، خاصة بعد ولادة المدرسة الرومانسيَّة في بلدها، والتي أوجدها روّادها ككفة ميزان بوجه الواقعيّة والواقعيّة الفائقة. فالفرنسيون كانوا من شعوب ذات الهوية موسومة بالرومانسيّة، والقريبة من التأثر المباشر بالجماليات والخيال الفني الشفيف، إذا ما تمت مقارنته مع بقية شعوب العالم. وهنا تحررت روسا بونهوير من الرتابة الفنيّة التي يفرضها المجتمع وانطلقت بأفقها الخاص، فرسمت الحيوانات وأجادتها، حتى أن بعض لوحاتها مازالت حديث النقاد ومقتنى المعارض والمتاحف العالميّة، كلوحتها هورس فاير - زيت على كانفاس، والتي صورت فيها أكثر من حدث حين جمعت جموح الخيول وسلطة الفرسان وسطوة الطبيعة ومهنة الصيد في لوحة أقل ما يقال عنها أنها من أجمل وأعظم اللوحات في العالم. ولا تقل شأناً برأيي عن الأعمال حديث الدهشة، تحررت هذه الفنانة من جلباب المرأة المجردة، وأبعدت ذاتها عن فكرة الانتماء المستمر للرجل، وقطعت طريق الانغماس بالمنزل بإيجاد طريقها الخاص عبر الفن، وانتجت رؤية جديدة حديثة للفن النسوي حتى أنها جمعت ما بين المعقول ونقيضه في استخدامها حيوانات الغابات التي كانت تصعب على الرجال الأشداء رؤيتها والاقتراب منها ومراقبة حركاتها. كما وتمكنت رغم قلة الوسائل أن تلتحق بغاياتها وتستبق عصرها بقرن كامل من الزمن، فقد رسمت الأسد في لوحتها گوشينگ لايون - زيت على كانفاس، وكأنّها جالسة قبالته وتقرأ تفاصيله وتغرق بمحيطه. ومن جهة أخرى أعادت ذاتها للحياة الطبيعية حين رسمت لوحتها الموسومة "عبور البغال".  

لم تبتعد بونهوير عن ذات المرأة ولم تتخلَ عن كينونتها فرسمت عدداً من اللوحات التي تحمل رسائل المرأة العصريّة للتاريخ وشهدت على انتقالات الفن التشكيلي الواقعي من الواقعية إلى الواقعية المفرطة إبان اختراع آلات التصوير الفوتوغرافي والتي وقفت عاجزة أمام إبداع ودقة خطوط واختيار ألوان اعتمدها هذه الفنانة في إخراجها. فهي تجيد دمج الخيال بالواقع والواقع بالحياة والحياة بالفن، وهذا ابداع قائم بذاته وهو أن تُنجز امرأة أعمالاً فنيّة في زمنٍ كان روّاد الفن فيه أكبر فناني العالم وتثبت نفسها وترسّخ فكرتها الواقعيّة في مجتمعٍ يميل بذوقه العام نحو الرومانسيَّة، فاحترمت هذا الميل ولم تحاربه، بل استنجدت بإمكانياتها لتومض في نهاية النفق بشيء مما تتطلبه الحياة الواقعيَّة. 

لذلك من السهل ملاحظة وجود اللقطة الرومانسيَّة في بعض أعمالها مثل "تغيير المروج" و "المنزل الملكي"، إذ رسمت الأسد أيضاً، ولكن مع لبوته، وهنا اعلنت عن انتمائها للجمال رغم أن حياتها الخاصة تختلف عن بقية النساء، كنمط عيشها وفهمها للإنسان بعيداً عن جنسه، فكانت مميزة في انطلاقاتها ورغم كونها من طبقة الفنانين لكنها اقتربت من الإنسان كثيراً حتى إن أشهر أعمالها "الحرث في نيفريس" حين صورت الأبقار وهي تحرث

الأرض - زيت على كانفاس أيضاً. 

كان روّاد المعرض الذي عُرضت فيه هذه اللوحة هم طبقة الفلاحين ورعاة الماشية وكان حضورهم تاريخيا، وهذا يدل على قوة تأثير هذه الفنانة بمجتمعها، روسا بونهوير رسامة ونحاتة فرنسية أبدعت في ابتكار أفكارها.. فكانت أول امرأة تحصل على لقب فارس من وسام جوقة الشرف عام 1865. رسمت الحيوانات باعتمادها على شغف مراقبة الطبيعة بدقة، إذ اعتادت ارتداء ملابس الرجال عندما تزور معارض الخيول والمسالخ وتجمعات الحيوانات في المراعي.. وحين رحلت تركت للإنسانيَّة كماً لا يستهان به من الجمال والإبداع.