جون وينتز.. كرنفاليَّة التعبير وتحوّلات اللون

ثقافة 2023/04/06
...

 ترجمة: رامية منصور


"لو أنَّنا سألنا أنفسنا فجأةً عن عدد المرات التي يطلُّ فيها المرء من النافذة طول حياته، كم يوماً وأسبوعاً وشهرا قضاها هناك ولماذا. نحن نطلُّ من النافذة عامة للتعرف على حالة الطقس أو لنسرح مع القمر أو نتلصص على الجيران، وأيضاً لإلهاء أعيننا وشغلها بشيء بينما يكون التفكير مصاحباً للصور التي تمر، الصور المولودة كما تولد الكلمات. إنها نظرات، لحظات، وتأملات طويلة لما لم يصل لأن يكون منظوراً، لحائط أملس وأعمى، لمدينة، للنهر الرمادي أو للمطر المتساقط على أفاريز الأسطح".. وفي أحيان ليست بالقليلة عندما نطلُّ على الخارج كما يقول ساراماغو لغاية ما في أنفسنا، لكننا في الحقيقة نطلُّ على أنفسنا، على ما في داخلنا من أمل ومخاوف وقلق نتأمّلها كمن يعود لذاته من ضياع في فوضى الحياة ليقلّب أوجهها التي تشبه الصفحات ويعيد قراءة ما قرأه سابقًا وما فاته أن يقرأه.. إن الداخل هو انعكاس للخارج والخارج بشكل ما هو انزياح للداخل.

   تكمن استراتيجية أعمال جون وينتز في منطقة بين التقنية الجامدة والتعبير الصادق. عبر العمل ضمن المصطلح الكلاسيكي للشخصيَّة البشريَّة، يهدف للتقليل من دور الصورة التشخيصيَّة على تبسيطها وتحليل عناصرها التكوينيَّة واللونيَّة. يسود أجواء لوحات وينتز بشكل أساسي اللون الأزرق والأخضر والأحمر في بحثه عن المؤثرات العاطفيَّة وعلاقتها باللون وهو يقص المساحات الموجبة ويترك المساحة السالبة شاسعة كميزة جوهريَّة في تكويناته. لمسات العجينة اللونيَّة الموشّاة بضربات الفرشاة التي تفرض نفسها بكل بساطة لتكون وسيلة لإيصال ونقل أفكار قلقة إلى المشاهد بطريقة لا يمكن فعلها إلا عن طريق الرسم.

    كانت القيم الانسانيَّة على الدوام هاجس الفنانين ومثار اهتمامهم بشكل استثنائي، الأمر الذي جعل منها مصدر إلهامهم الأساسي. وكان علم النفس الحديث والأساطير القديمة خير مدخل للتعرف على هذا العالم، بيد أن قلة المعرفة في هذا المجال لدى أغلب فناني العصور السابقة وربما الحالية بشكل ما صنع شرخًا فاصلًا بينهم وبين هذا المسعى وكان جون من أكثر الفنانين بحثًا في هذا المجال لإغناء خطابه الفني. تستكشف أعمال وينتز المستوحاة من كتابات عالم النفس كارل يونغ الكيفية التي يؤثر فيها أنموذج الانسان أو البطل الخارق على التجربة الإنسانية. ويهدف جون إلى خلق حوار بين طفولته وطفولة اليوم، من خلال وضع شخصيات الكتب الهزليَّة القديمة مع الصور السورياليَّة التي يبدو أنَّها تفتقر إلى هذا الأنموذج أو تسيء فهمه.

يتأمل وينتز شخصياته، في العديد من أعماله، وهي تتجوّل في دوران حياتها اليوميَّة وهي تُحدّق من خلال الأقنعة الواقية من الغازات، حيث يظهر قناع الغاز في سلسلة من لوحاته ليرمز إلى الخوف من الغيب والمجهول. مثل العديد من الرموز القوية في العمل، فإنه يمثل إرادة البقاء وسط الآثار اللاإنسانية للحرب. كما أنه يرصد تفاعلها مع هذا العالم المتغير من حولها، والتي هي بدورها تقلّده في تغيراتها الداخلية في محاولة منها لربما للتأقلم معه. وتعمل اللمسات اللونيَّة الصارخة تارة والمنحسرة تارة أخرى في أساس اللوحة على إنشاء هياكل كرنفالية متداعية كخلفيات للوحات وينتز الجميلة المثيرة للتأمّل. 

  يتحرك أسلوب وينتز في مكان ما بين التقنية الصارمة والتعبير الحقيقي. إنها عملية يتم فيها قصقصة الشكل البشري الكلاسيكي وتبسيطه في ملامح تمس جوهره الذي يمكن تحديده في ثلاثة عناصر: التكوين واللون ولمسات الفرشات بعجينة اللون. يشعر هذا الفنان براحة أكبر في العمل مع الأزرق والأخضر والأحمر على سطح لوحته، حيث أن العلاقة بين هذه الألوان هي أكثر ما يناسب جميع مشاعر تعبيره الفني الذي يحاول النزوع نحو التجريد لكنه لا يستطيع الانسلاخ من وجوهه الواقعيَّة.