مع ساراماغو في (دليل الرسم والكتابة)

ثقافة 2023/04/06
...

 طالب عبد العزيز 

 ما إن رأيتها صورتي، التي بعدسة إحسان الجيزاني، حتى فزعت إلى المرآة، أتحقق من وجهي. أحقاً أنا كذلك؟ ياه، التجاعيدُ أكثر مما كانت بالأمس، عيناي سائلتان، وجبهتي تغضنت كثيراً، وفمي بابتسامته الزائفة، لِمَ أحاصره بين فكيَّ هكذا، ولأنني لم أحلق ذقني فقد بدوت بشعاً بالشعر الابيض، سمرة وجهي الفائضة جداً تجعل الابيض رماداً داكناً.. لم يستخدم إحسان الآليات التي نحسن بها صورنا، تلك التي تخدعنا الهواتف الحديثة بها، ولم يلجأ الى تلوينها، بل أخذتني عينُه البارعة بما أخذتني السنون به، في ظهيرة بمقهى الادباء، دونما عناية مني بي، كنت أبحث عني في الجسد، الذي ضننت به على الايام والشمس والريح وتراب العربات المسرعة.  

  في روايته (دليل الرسم والكتابة) لخوزيه ساراماغو- ترجمة أحمد عبد اللطيف- منشورات الجمل، يتحول الاسم عند الرسام إلى مجرد لون في أنبوبة الزيت، أو مجرد فقاعة في زجاجة. في الرواية الهائلة هذه، التي بدت لي مختلفة، بين أعمال ساراماغو يكشف البطل (الرسام، الكاتب) – وهو نصف موهوب- كما يدعي، عن أعماق المرسوميَن، الذي يقفون أمامه، فهو لا يريد أنْ ينقل الى القماشة تقاسيم الوجه، وحركة اليدين، واستقامة أو التواءة العنق.. إنما يذهب الى السلوك الانساني فيهم، الى افعالهم غير المعلنة، الى حيواتهم المنغلقة التي انغلقوا عليها، الى اللحظات الفارقة التي لم يأتوا بها الى مرسمه، الى الشرور والقبح والعجز التي لا يرغبون في اظهارها، هم يبحثون عن صورة أخرى، تقترب منهم، ليس إلا. يقول: « ترى، ما هو لون بشرتنا في عين النسر؟» .  ليس مهماً أنْ نستعرض أحداث الرواية، التي أجدها سيرية لساراماغو نفسه، ولا اجد قيمة في قولنا بأنَّ البطل الذي راح يرسم اللوحة التي كلفه بها (اس) وأنشأ لوحة أخرى مختلفةً، هذه التي لن يراها صاحبها، ذلك لأنه لا يرى في نفسه رساماً، ينقل الوجوه بما تقدمت به اليه، ولا يرى في ذاته كاتباً، ذا معنى في الفصول التي يتحدث فيها عن زيارته لروما وفلورنسا ونابولي ومشاهداته للأعمال الفنية هناك، إنما يبحث فيها عن المسكوت عنه والمفزع أحيانا، ففي علاقته الجسدية مع أولغا سكرتيرة (أس) راح يبحث عن (أس) نفسه، في حواراته معها، هو يلعب بالكلمات كأنه يستخدم الالوان، لكنه يقول: «في الحقيقة سأقول: لا لوحة ولا صورة».

  تختلف الرواية هذه عن بقية اعمال ساراماغو، مع أنها تلتزم نهجه الفلسفي وموقفه الايديولوجي المعروف، فالبطل رسَّام، يعترف بانه نصف موهوب، وكاتب أقل قيمة من الكتاب، لكنه (ساراماغو) يوائم بين الرسم والكتابة، فالبطل يترك رسم لوحة (أس) غير كاملة في الصفحة 138 من الرواية، ويكتب لنا مشاهداته عن المدن التي زارها، حتى لنظنُّ معه بأنه لن يعود الى لوحته تلك، وكما لو أنه تحول من رسام الى كاتب، فينسينا معه أمر اللوحة وتفاصيل معايناته في وجوه الذين يرسمهم، في فهم وجودي للإنسان وما يكون عليه في لحظات صدقه امام ذاته، كذلك تتضح آراؤه في المقدس حين يقارن بين تمثال للقديس سان انطونيو المصنوع من الخشب، والذي يحتفظ به في مرسمه وبين الكرسي التقليدي، المصنوع من الخشب أيضاً حين يقول: «كلاهما مصنوع من الخشب، كلاهما تبرير للحياة، أحاور نفسي، أيهما أكثر اتقانا، أيهما أكثر التزاما بوظيفته، أيهما أكثر نفعاً؟» لكنه، في النهاية لا يمنح جائزة لأحدهما. 

  مع إتضاح النهج الايديولوجي في فصول الرواية الأخيرة، وانحياز الكاتب الى طبقة المقهورين، وموقف البطل غير المعلن من دكتاتورية سالازار (1932 - 1968) الذي حكم البرتغال 36 سنة، ومن ثم وقوعه في حبَّ شقيقة المناضل انطونيو، الذي وثِق به، وجعله وسيطاً بين أسرته، في زيارات الاسرة له سجينا، البطل الذي لم ينتمِ الى جماعة الثائرين على حكم سالازار، في الفصل هذا يقدِّم ساراماغو لنا أنموذجاً ثوريا آخرَ، حين غيَّر من قوانين الرفض، فالبطل (الرسام، الكاتب) لا يعبر عن رفضه للدكتاتورية بالتصريح، إنما بموقفه الوجودي والانساني خلال تأمل وجوه الذين يرسمهم، وفي استعادة تاريخية لمحاكم التفتيش يستحضر موقف الرسام غويا مع كارلوس الرابع وعائلته الملكية، الذين جعلهم أكثر قبحاً، فـ (البطل) الرسام يرفض أخذ كلفة اللوحة التي رسمها لـلبرجوازي (أس) لأنَّ الأخير رفضها، كونها لا تعبّر عنه، مثلما يرفض تسليمها له، من دون قناعته بتمثيلها له، وهكذا، يحتفظ باللوحة، رافضاً تسلم الشيك منه. «هناك جزء مني ينام فيما يكتب الجزء الآخر». 

   وفي استغوار للنفس الانسانية، خارج حدود الايولوجيا والموقف من السياسة أيضاً يقول:»لا أرسم الجمال وحده، النادر جداً، إنما القبح كذلك، الاكثر شيوعاً، إذ، إننا نحن البشر غير جميلين، نحن نقبل القبح بعزة نفس» وفي فهم عميق آخر، لكنه مؤلم أيضاً، وهذا ما استقاه من الوجوه الكثيرة التي رسمها، يكشف عن قدرة الانسان العجيبة في اخفاء قبحه، إذْ أنَّ الشكل النهائي للإنسان عنده يتجاوز حدود ملامح الوجه، وقدرتنا على الانزواء والتمرئي الى النفس، فهي العلامة الحقيقية للوجود، لأنَّ الوعي هو الذي يحدد الكينونة. «أفضل سلاح ضد الموت ليس حياتنا البسيطة». ليس حياتي التي تُفزعُ الموت. 

  أمام صورتي التي جاءتني بالبريد من المصور الجيزاني، ومع فزعي منّي ذاك، وبين سخريتي من أعمال الفلترة والفوتوشوب وتجديد الاشكال، وجملة الاماني الخائبة، كنت أردد ما يقوله ساراماغو، على لسان بطله إتش: «نحن ننحتُ وجوهنا من الداخل، مع أنَّ قِصرَ الحياة لا يسمح لنا بإنهاء العمل». لكنه، يستعيد حسيّة الانسان فيه، حين يذهب موغلاً بعلاقته مع شقيقة السجين الثائر انطوينو، ساعة إختلائه بها في سيارته فيقول: «قبّلتها، وظللنا في القبلة، حتى أنَّ العالمَ إمتلأ بالكواكب». (دليل الرسم والكتابة) عمل روائي يوقفنا عراةً في مواجهة

حياتنا.