رمزية الإلغاز بين الركابي وزيدان

ثقافة 2023/04/08
...

  جينا سلطان

 

لطالما تحدى رسم الحروف وإلغاز الإشارات والصور دِعة الإنسان الغافل، وزعزع استغراقه بفرط الثقة، ووجه صدمة قاسية لحب التباهي عنده، مذكراً بمبدأ العود الأبدي. فمع كل اكتمال لدوائر العشق الساري في الكون، والذي ينتثر حبورا لا يلتقطه إلا المتيقظون، تعود الأحجية الملغزة عن صورة الكون بين الكاف والنون، إلى نقطة البداية، فلا يتبقى للمتأخرين سوى الدوران حول محيط الدوائر الكونية المتداخلة. 

وبين الروائي العراقي عبد الخالق الركابي والمصري يوسف زيدان ثمة تقاطعات مشرقة، تُذكي حسّ البحث عن الغاية من تجلبب الحقيقة بالأوهام، وتبعثر حكمة الصفوة بين طيات الرموز والإشارات، بحيث يتأمل الباحث على ضوء مصباح مكتمل الإنارة كما أكد فيثاغورث. فكيف تأتى لزيدان في روايته "عزازيل" التقاط تردد اليقين وتواتره في قلوب الغافلين ممن تغطوا بعباءة الدين قبل أن يندثروا في متاهات الدنيا وغوايتها؟ وكيف هدهد الركابي أغنية الوجد الباطني في حنايا روايته "سابع أيام الخلق"، وهو يبعثر معرفة الصفوة في إلغاز تقصدي؟

تتكئ "عزازيل" على الخصوصية المتبادلة بين شرق سرياني وغرب مصري، يجسر الأفكار لعبور الذوات المنهكة من عبء استفساراتها، فيُشبَه لها بأن الشيطان يحرث من خلال الشك نفوسها، ليضعها أمام مفترق طرق، فإما اليقين ومسالكه، أو مواطئ الغواية والتباساتها. وفي هذا الصدد لا أفضل من مقدمة فيثاغورثية موسعة يعهد إليها زيدان بمهمة توضيح حجم دوائر الأوهام المتداخلة التي يغرق فيها الجاهلون المتناحرون؛ ففي الحياة وفي الكون كل شيء دائري يعود إلى ما منه بدأ، ويتداخل مع ما به اتصل، فليس ثمة بداية ولا نهاية على الحقيقة، والأمر الواحد يتوالى اتصاله فتتسع دائرته لتتداخل مع الأمر الآخر، وتتفرع عنها دائرة جديدة تتداخل بدورها مع بقية الدوائر. لذلك، تستند الرواية الى مقولة "بقية الأشياء مثل بقية الأشياء، لا يمتاز منها إلا ما نميزه نحن بما نكسوه من وهم وظن واعتقاد"، والتي تؤطر معظم روايات زيدان.

بطل الرواية راهب مصري معتزل في الأربعين من عمره، يدعى "هيبا"، ينغلق في صومعته التي تشكل الدائرة الصغرى من عالمه المحسوس، وتحيط بها دائرة الدير الأنطاكي، حيث يبدأ خلوة الأربعين يوما، وخلالها يدون أفكاره حول عصف الشك وأعاصيره في قلبه الممتحن، فتتسع دائرة الحيرة ضمن الكون المحكوم بالدوران. أما أحداث الرواية فتدور بعد ميلاد السيد المسيح بأربعمئة وواحد وثلاثين عاما، وتتوزع بين الإسكندرية وانطاكية والقدس، لتعنون صراع الكبار وضياع العوام في لجة الأحقاد ودموية النزاعات السياسية. 

يضع زيدان بطله في إهاب المؤمن الغارق في بحور الشك، والباحث عن أمان اليقين وطمأنينته، مما يتيح أمامه طرق المسائل اللاهوتية التي شغلت المفكرين والمجادلين قرونا طويلة. ومن ثم سيدفع هيبا، المنهك من سفر الجسم والروح في الأرض والسموات، والغارق في الحيرة المتأتية عن ارتحال العين بين صفحات الكتب، إلى مواجهة الجبرية المؤطرة للشرطية الإنسانية: "لا أحد يختار، وإنما هي مشيئة السماء تتخلل الأشياء والكلمات حتى تصلنا على نحو خفي". فيصبح الإبحار في النفس لتدرك مشرقها غاية هيبا الأساسية، وتغدو الإجابة الوحيدة رغم كثرة الأسئلة معبراً نحو اليقين. 

ومن خلال إدارة الحوار مع الشخصيات التاريخية يصقل زيدان مفهوم الإيمان عند هيبا، فيدرك الأخير مرونة الدين ومقدرته على مخاطبة قلب الإنسان وعقله في كل زمان ومكان؛ فـ "الله محتجب في ذواتنا، والإنسان عاجز عن الغوص لإدراكه". ويبرز الزيف المستبطن لادعاء الإنسان الوقوع تحت غواية الشيطان، ويرد الشر والطمع إلى نفسه الأمارة بالسوء؛ "فلما ظن البعض في الزمن القديم أنهم رسموا صورة للإله الكامل، ثم أدركوا أن الشر أصيل في العالم، وموجود دوما، أوجدوا الشيطان لتبريره".      

يوسع زيدان مسؤولية الإنسان حين يعتبر الديانة دَيناً فادحاً، لا يمكن لأحد أن يوفي به، فتقاطعات الدوائر الكونية تفرض التداخل الخفي بين الحيوات وسعة طاقتها على احتواء الأفكار. بالمقابل، يؤكد على أنه لا يمكن إفناء الآخر، بمعنى إزالته ومحو ذريته، فآثاره ستبقى بمثابة إدانة وإشارة في الوقت نفسه إلى أن مصطلح العقاب يقترن بإسقاط الحيز الزماني والمكاني. ومن ثم، لن تكفي هيبا مطالعة الكتب المحظورة، والطواف حول الأماكن المقدسة لتحقيق طهارة البدن والروح، لإغلاق دائرة الفعل ورد الفعل. 

    في "سابع أيام الخلق" يكشف عبد الخالق الركابي عن ذهن متقد يبث الأحاجي الملغزة ويتوجه إلى القراء حسب بصيرة كل منهم، فتتداخل دوائرهم وتتقاطع وفقا لمكتسبات نفوسهم، التي تنتظم داخل بنيان مرصوف من الحروف والكلمات، يسميه بمدينة الأسلاف. بالمقابل يؤرخ تطور الشروحات على هوامش مخطوط يدعى "الراووق"، والذي يضم اجتهادات المفسرين لماهية تلك المدينة الرمزية، بحيث يتلاقى الماضي بالحاضر عبر ثنائية الباحث ـ المحقق، في اتصال يسقط الزمن والمكان، وينجز لونا أدبيا مميزاً. 

يسعى راوي النص إلى دمج نفسه في لحمة المخطوط استنادا إلى قول الشيخ الأكبر ابن عربي: "العالم حروف مخطوطة مرقومة في رقِّ الوجود المنشور، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي"، من دون أن ينسى الإيحاء بإمكانية التعاطي مع رموزه باعتبارها حلما يتولى المفسرون منحه الطابع الذي يناسبهم.

    لم يمنح الركابي بطله اسما، بل اكتفى بلقب الروائي، ووهبه كل الصلاحيات ليروي هواجسه عبر فصول أطلقها في سبعة أسفار، تاركا حروف اسم (الرحمن) السبعة تسري في كتابه، سريان الواحد في مراتب الأعداد؛ لا مفر لها من أن تفنى فيه لتبقى به. بالمقابل، يشير إلى تعاقب ستة رواة على تشييد مدينة الحروف والكلمات (مدينة الأسلاف)، ويشيد بمحاولة الروائي الجريئة بأن يغدو سابعهم في إعادة الخلق، معترفا أن كتابة رواية يعكس 

في واقع الأمر ضرباً من حب الذات، 

يسول للروائي تأمل نفسه في مرآة 

الوجود.

    كتبت فصول مخطوط "الراووق" بلغات متباينة، عكست الصراع بين قطبي العالم؛ الخير ممثلا بالسيد "نور"، والشر ممثلا بـ "مطلق"، وبينهما لعبت القلعة دور محرك ومؤجج الأحداث. وبينما لف الغموض شخصية السيد "نور" أفصح "مطلق" عن استسلامه لشيطان الطمع وسبله. ومع توالي الأحداث يصبح "مطلق" الحاضر على مسرح الذات، بينما يتوارى السيد نور وجوداً، ليشرق شغفه الكوني في قلوب صفوته.

أفسح "الراووق" الفرصة لإبراز شغف المحققين في سيرة مطلق، من ناحية، وتعاقب هبة الإشراق على القلوب الوجلة، من ناحية أخرى، ابتداء بإشراق الأسماء فالصفات وانتهاء بإشراق الذات، حسب مواقيتها ومستحقيها. وفي الوقت نفسه، عنون دأب هؤلاء على معايشة أحداث اتخذت مظهر الصور، وصولا إلى معاينتها من المبدأ إلى المعاد، كي يبصروا موجوداتها كما هي في علم الغيب. 

    قبض الركابي على ناصية المراحل الثلاث التي تخرج بها الذات من إطلاقها إلى مسرح الوجود، ليتبع عروج شخصياته الروائية صعودا نحو المؤلف، وبالعكس عروج المؤلف بدوره نزولا نحو تلك الشخصيات، بحيث يدرك الطرفان وحدتهما على صفحات هذه الرواية ـ المحاكاة الرمزية للتدوين؛ فما كان موجودا في ذهن الروائي بالقوة، من أخيلة وصور وأفكار وتعيينات، سيكتب له التحقق في الرواية فعلياً على شكل حروف وكلمات.

تتخذ رواية سابع أيام الخلق طابع الإلغاز والسعي للإسفار عن غاية التدوين والكتابة فوق الهوامش وهوامش الهوامش. فيسافر الركابي عبر رمزية الصور التي صاغت مدينة للحروف والكلمات، ويبحر في المدد الصوفي ملتقطا أعطيات الأقدمين، لجمع الحدس مع التفكير المنطقي والرهان على الخلود. وبعد أن يبعثر معرفة الصفوة ويتحدى الآخرين بمحاولة تجميعها، يؤلف بين حدي الكون "نور" و"مطلق" ليتحدى الجهل والتجهيل، ضمن مواربة متقنة تتيح التواصل بين السالكين درب العشق.

    يحاول الركابي من خلال الراوي إيقاف تسرب الزمن بواسطة الكلمات، ليكشف سر التعليق على هوامش الكتب المحظورة، ثم يفسرها باليأس والخوف من العدم ومحاولة أولئك الرواة احتواء الكلمات، بأمل النفاذ إلى ما وراء زوال المادة وطقوس عبوديتها، كما ينعطف إلى حقيقة الوجود القائم على الحب، الذي هو السر والعلة الأولى، فيمنح العشق المبرر للنطق بالمحظور المحجوب.

التف زيدان بحرفية عالية حول وثائق التاريخ ليلفت الانتباه إلى تواصل دوائر العنف الذي يغلف الدين، ويؤجج حقد البشر، بينما أطلق الركابي رموزه في استفزاز فكري يحفز البحث عن الغاية والنتيجة. وكلاهما تعامل مع الدوائر الفيثاغورثية لإسقاط الرمزية الأدبية على تحديات الحياة المعاصرة، فانطلق الأول من خصوصية التجربة الفردية إلى منبع الشر الإنساني وتوزعه زمانيا ومكانيا، وعبر الثاني من إلغاز الأسرار إلى حتمية التواصل بين المقربين في كل زمان ومكان. 

وعندما أكد زيدان أن العالم الحقيقي في داخل الإنسان وليس في الوقائع التي تثور وتهدأ، وتنتهي لتبدأ غيرها، وذكر الركابي أن عودة مطلق إلى البداية تفوض الأجيال الآتية مهمة تأويل ما بين المبدأ والمعاد، فإنما ليبرهنا أن دوائر الإلغاز ترسم خطاً أدبياً مميزاً يحمل الثقة في عهد الغفلة والظلمات المتصاعدة.


المراجع

1. عزازيل، يوسف زيدان، دار الشروق 2009

2. سابع أيام الخلق، عبد الخالق الركابي، دار المدى 2009