نظريَّات الإخضاع النفسيَّة للسلطة

ثقافة 2023/04/09
...

 وارد بدر السالم


(1)

يعرّف قاموس أوكسفورد الإنكليزي الإخضاع بأنه: الحالة التي يكون فيها المرء خاضعاً للآخر أو واقعاً تحت سيطرته.. وهذا الملمح المختصر يشير الى حالتين: هرم السلطة الضاغط كلياً على الجماعة، والذوات الخاضعة لسيطرة الهرم والماثلة تحت ثقله.جوديث بتلر فيلسوفة أمريكية لها إسهامات في مجالات الفلسفة النسويَّة. تناولت أبحاثها نظرية الأدب، الخيال الفلسفي المعاصر، النسويَّة، دراسات النوع والجنسانيَّة، الأدب والفلسفة الأوروبية في القرن العشرين. تناقش في كتابها المهم (الحياة النفسية للسلطة - نظريات في الاخضاع) مفاهيم فلسفية دقيقة في الذات وتشكل هويتها الشخصية وعلاقتها الخارجية والداخلية بالسلطة.


 ومقدار خساراتها المتوقعة في النظام الرأسمالي، مثلما تناقش الجسد ومفهوماته الكثيرة وكيفية النظر اليه من بوّابة السلطة، كأبرز عناصر الذات المواجهة، في تشريح لمفاهيم فلسفية عند هيغل، ونظرية الإخضاع الألتوسيري، ومشتركات الإخضاع والمقاومة بين فرويد وفوكو، والبدايات النفسية لظهور الميلانخوليا والكآبة السياسية والازدواجية في السلطة السياسية. ومع هذه المباحث التي حفل الكتاب بها التي أوصلته الى فهم موضوعة تجسيد الإخضاع بوصفه ناتجاً من نواتج الممارسة السلطوية. تحت سؤال: ما الشكل النفسي الذي تتخذه السلطة؟ وما هي الآليات المتبعة لسلطة متحكمة في الذوات عبر أجسادها وتاريخها الطويل، كمنظومة لها علاقة بالروح والحرية والانعتاق من وطأة ثقل السلطة المتماهية مع شذوذها، بأن تجعل من الذات تحت سيطرتها، تمهيداً لإخضاع الذوات التالية التي تشكل مجموعة من الأجساد والأرواح؟ هذه الأسئلة المتعلقة بالذات والجسد والسلطة، هي العماد الأساسي وجوهر المباحث التي أولتها الباحثة اهتماماتها الفكرية والنظرية، منطلقة من أفكار نيتشه وفرويد وألتوسير وفوكو، كتعزيز لمناقشة جوهر السلطة وهي تحاصر الذات الإنسانية، لإخضاعها الى شروطها، ومن ثم تهميشها وتدميرها.

(2)

حدّد هذا الكتاب الفلسفي هدفه أولاً بأول (السلطة والذات) ولا يمكن أن يُقرأ وحده، ما لم تكن ثمة إحاطة شاملة بنظريات وحوامل الوعي التنظيري لدى نيتشه وفوكو وفرويد وألتوسير في الجسد والروح والحرية والعبودية والسيادة. ومدى علاقتها بالإنسان ككائن لا يعيش بثوابت فرضية، ما لم تتغير بتغير نظريات ومحددات السلطة وأهدافها. وهو أمر تنتبه اليه الباحثة في معالجاتها النفسية لموضوعة الذات عبر السلطة واقتحاماتها الداخلية والخارجية. ففرضية "الشكل الانعكاسي" الذي يراه نيتشه لتشكل الذات الفردية بانقلابها على نفسها، لا يراه فوكو إلا بأنه "يضغط على الذات من خلال تشكيلها، مما يشير الى وجود ازدواجية في موقع انبثاق الذات" أي أن وجود الذات تحت رقابة السلطة وضغطها بأن تكون تبعية لها أفضل من أن لا تكون -الذات- غير موجودة. أو أنها خارج المنظومة السلطوية بالرغم من ثقلها وتحييدها للذات الفردية ومن خلالها الذات الجماعية. على أساس أن السلطة تعيش داخل نظريتها، وبالأصح بأنها تعيش على هامش نظريتها، أو في خيالها السياسي الذي يُحدد آفاق خيالها، وهذا يتمدد في نظرياتها. حتى يشمل حوامل الذات من جسدٍ وفكر وحرية. لتحديد أكثر من آصرة سلبية بين الذات الفردية / الجماعية وبين السلطة في محتواها الذي تشكله نظرية السلطة وقوتها.

(3)

عندما تكون السلطة مفروضة على الذوات الاجتماعية؛ تشكل ذاتين: خاصة بها وهي خط أحمر لا يمكن المراوغة معه أو تخطيه أو المناورة عليه. وذات جماعية خاضعة لذاتها الشخصية، بمعنى أن مجموع الذوات يعيشون في الحياة الخارجية، وأهل السلطة يعيشون في الحياة الداخلية لنظرياتهم. ومن ثم فإن السلطة غير قادرة على أن تفهم معنى الحب، ولا يمكن لها أن تفهمه، لأنها مجردة من عوامل الحب كما تشير بذلك نظريات علم النفس التي اتخذتها الباحثة مرجعاً لها. ومن الطبيعي أن يكون الإخضاع شرطاً أولياً لسياسة السلطة عبر الذات التي توجِد السلطة بمزايا مفترقة عن الذات الجماعية والوطنية.

لعل فوكو أراد توخّي الحذر وهو يعالج موضوعة "الطابع الإنتاجي للسلطة" في معالجته وإشاراته لأنظمة الحكم التأديبية، وإبراز أدوار متباينة للجسد البشري الخاضع لمهيمنات السلطة في الاعتقال والتعذيب وحبس الجسد وإيذائه، لتهشيم الذات الفردية - الوطنية وتشويه معيارها الداخلي بأساليب السلطة المعروفة. وهذا يقترب من فلسفة هيغل في "فينومولوجيا الروح" حول السيادة والعبودية وانحلال الحرية، لا من أجل تحرير الذات في "السياسة الحديثة" بل "استجواب الآليات التنظيمية التي من خلالها تُنتج الذوات" وما تنطوي عليه من محددات فلسفية واعتبارية، يتقدمها الجسد بوصفه حاملاً للذات، ومقدار "إنتاجه" لها في ظروف السياسة والسلطة القابضة عليه بأكثر من طريقة. ومن ثم فإن الإخضاع ينجم عن فكرة الخوف التي تلازم الجسد، كفكرة السجين التي رآها فوكو عبر الهوية الخطابية له "الإخضاع هو حرفياً صنع الذات" ويرينا فوكو كيفية معاينة "تاريخ الأجساد" بإشارته الى أن السلطة" تعمل في الجسد" وهي تغزو "باطن الجسد" فالجسد ذات والذات ليست بالضرورة هي الجسد، لكنها ضمن منظومته الداخلية، وتشكل مساحة مهمة في تشكيله الظاهري والباطني. 

(4)

ما بين السلطة والذات ينكشف التناقض الكامن في الذات الخاضعة لأواليات السلطة ومفهومها السياسي والأخلاقي الذي تمكن منه فوكو ونيتشه وألتوسير في نظرياتهما التي تتحدث عن الجسد والروح وما بينهما، بوجود السلطة التي ترتد الى تهشيم الذات وتشويهها بوسائل كثيرة، وهي فاعل خارجي، على عكس الذات التي هي فاعل داخلي ينتظم مع الجسد. 

وخلاصة العلاقة أن للسلطة ذاتاً، هي غيرها ذات الجماعة المرتبطة بها. ليمضي الكتاب مراقِباً كل العلاقات الملتبسة (بين السلطة وإدراك الهوية) في تقديم الذات كأنموذج في باطن الجسد. والسلطة كذات مستقلة خارج الجسد، تنظّمه كما تريد في آليات قسرية، يمكن أن نعرفها من علاقة الجسد بالسلطة. وطريقة امتهانه أثناء غزو السلطة له.


•الحياة النفسية للسلطة - نظريات في الإخضاع. تأليف: جوديث بَتلر. ترجمة : نور حريري. الناشر: دار نينوى - دمشق2021.