تمثلات المونولوج والسوليلوج في المسرح المعاصر

ثقافة 2023/04/09
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب


إن حاجتنا المعرفيَّة والجماليَّة الى إقامة التمييز بين نوعي المونولوج monologue والسوليلوج soliloque في الحقل المسرحي هي حاجة عضويَّة متأتية من الرهانات الكتابيَّة التي يطرحها فعل الكتابة في المسرح المعاصر وخصوصا في التجربة المحلية العراقية التي تهمنا بتجارب ابراهيم جلال وقاسم محمد وعوني كرومي ويوسف العاني وعادل كاظم مرورا بجواد الأسدي ومهند هادي وعلي عبد النبي الزيدي وماجد درندش في كتاباتهم الإخراجيَّة والدراميَّة مع مراقبة تحولات الخطاب عبر الزمكان لديهم وتغيرات المونولوج والسوليلوج اللذين اتخذا حصة وافرة في أشكال كتاباتهم للعرض المسرحي والانتقال بين الذاتي والموضوعي لديهم وقبل كل شيء علينا ان نتبين مما يفصل المونولوج عن السوليلوج وما يصل بينهما.


 يخصص معجم المسرح لمؤلفه (باتريس بافيس) مادة خاصة بالنسبة للمونولوج وأخرى خاصة بالسوليلوج على أن المادة الاولى تتميز عن الثانية بشيء من التوسع ، ويختار المعجم ان يقترب من المونولوج بما يجعله مختلفا عن الديالوج (الحوار)، (إنه يتميز عن الحوار بغياب التفاعل اللفظي وبطوله المنقطع عن سياق الصراع والحوار). يشير المعجم باسهاب إلى بعض من تاريخية توظيف المونولوج الذي كان مرفوضا من قبل المسرح الواقعي والطبيعي لان (الإنسان لا يكلم نفسه بصوت مرتفع، لذلك فإن كل تمثيل لشخصية تبوح بعواطفها لنفسها سيكون مخجلا لاواقعيا وغير قابل للتصديق) يشير المعجم إلى صعود مصطلح المونولوج مع (بريشت) وبعده تأثرا بتيار الوعي الآتي من الرواية لجيمس جويس وفرجينيا وولف وكافكا.. وبحسب هذا التحول اصبحت (فكرة محادثة تتم بين شخصين يتناولان القهوة ويتحدثان بهدوء ورزانة عن العالم اصبحت فكرة نشازا أن لم تكن عبثية) وضمن هذا النزوع الذاتي تقوت وانتعشت مونولوجات (مارغريت دوراس) و(بيتر هاندكه) و(هاينر مولر). أما بخصوص السوليلوج فلا يقدم المعجم عنه شيئا كثيرا اذ يعرفه بما يميزه عن المونولوج (يحيل السوليلوج اكثر من المونولوج الى وضعية تتأمل فيها الشخصية حالتها النفسية والاخلاقية، انها تبوح هنا وفقا ـ لميثاق مسرحي ـ بما كان سيظل مجرد مونولوج داخلي يمتلك طابعا اشهاريا) ان هذا التوجه نحو الخارج الذي يميز السوليلوج يكتسبه من توجهه نحو الجمهور فتقنية السوليلوج تظهر للمتفرج روح ولا وعي الشخصية التي تحتاج الجمهور شاهدا على اعترافاتها، في نهاية المطاف يعتبر المعجم المونولوج والسوليلوج لحظتين مختلفتين عن الحوار يتميز الثاني عن الأول بتوجهه نحو الجمهور للكشف عن البطانة الداخلية للروح والوعي، على أن الأول (المونولوج) حالة تعيشها الشخصية مع نفسها فقط، في الحقيقة لا ينبئ المعجم عن كبير اختلاف بين النوعين، وحتى الاختلاف الوحيد بينهما ـ التوجه نحو الجمهور ـ لا يعدو أن يكون اختلافا ظاهريا، في القراءة الفلسفية للفيلسوف الفرنسي (جان جاك ديفور) الذي لا يبدو مقتنعا بوجهة الخطاب اساسا للتمييز بين المونولوج والسوليلوج. 

إذ يقول (لا يمكن ان نميز بين النوعين بالوجهة، ان كل نص وكل كلمة يتوجهان نحو وجهة حالما نلقيهما، كيفما كانت درجة وضوح او عدم وضوح المرسل اليه فهذا يعني ان نكلم احدا بالطريقة نفسها التي يكون بها الوعي وعيا بشيء ما، هكذا تكون الكلمة دائما موجهة نحو شخص يتلقاها من الخطاب السياسي الى الجدل إلى الصلاة، الكلمة دائما هي موجهة حتى لو كان ذلك نحو أفق غير محدد او مشكوك فيه) بهذا المعنى يبدو أن أي تمييز بين المونولوج والسوليلوج باعتبار الوجهة تمييزا غير مقنع، تمييزا تقنيا لا يفيد من وجهة نظر (ديفور) ما دام أن كل كلمة تتوجه وجهة محددة او غير محددة ليخلص الفليسوف الفرنسي الى اقامة عملية فصل / وصل تأويلي بين المونولوج والسوليلوج حين يقول :( ينتظم النوعان حول مفهوم (النقص) لكنه نقص مختلف، في المونولوج تقاوم الشخصية نقص الاحساس بالوحدة داخلها في حين تقاوم الشخصية في السوليلوج نقص وجود المخاطب) المونولوج هو شاهد على نقص في الهوية ينبغي استعادته اما السوليلوج فيؤشر على عدم وجود الاخر، وهو ما يستدعي العمل على استرداده وتعويضه عبر الكلمة كما في سوليلوج المومس (شن تي) في مسرحية الانسان الطيب لـ (بريشت) حين تترك الالهة النازلة الى الارض لديها مبلغا كبيرا من المال جزاء رعايتها لهم في حين يقفل الجميع ابواب دورهم ويعزفون عن استقبالهم، حينها تحتاج (شن تي) سوليلوجا متوجها نحو الجمهور كي يسمع بوحها وفرحها بما اوتيت من مال وهي المقصية والمنبوذة اجتماعيا كأنها تريد مواجهة هذا المجتمع والانتصار لذاتها منه، في المونولوج يحدث كما لو ان عزلته تقتضي الانفصال عن تأثير الاضطراب المقبل من الاخر وفي السوليلوج يحدث الامر كما لو ان العزلة هي حالة فيض الانا واستحالة صرف انتباه الشخص عن نفسه، يبدو مقترح (ديفور) واعدا وهو لا يقف عند حدود انفصال النوعين واختلافهما انما يستكمل مشروعه فيما يصلهما ايضا انهما يتوحدان حول الكلمة ووراء خاصيتها الجامعة والموحدة، في حين نرى ان هذا الجامع يعتمد على السيرورة المسرحية اي وجود النوعين داخل بنية العرض المسرحي والاتجاه الدرامي والاخراجي لصناع العرض الذي تغير وتحول من مواجهة الجمهور في السبعينيات برسائل تعليمية وتربوية مباشرة حينها طغى السوليلوك بسبب حرية الخطاب النسبيّة آنذاك وانتشار الاساليب الملحميَّة البرشتية واشكال الفرجة  التي عمقت اثر الراوي والروي وكشف المتناقضات داخل بنية العرض المسرحي ومكاشفة ومصارحة المتلقي، إلى عودة حادة للمونولوج في مسرح ما بعد 2003 في بلادنا بعد أن احتاجت الذات أن تبوح مضمراتها ومكنوناتها اللاشعورية بعد ان ظلت حبيسة صدرها زمنا طويلا.