{الحافلة الصفراء}.. رهان على المدينة واستجابة للحداثة التكنولوجية

ثقافة 2023/04/10
...

  عدنان حسين أحمد

يحتاج الفيلم الروائي القصير إلى خبرة في تكثيف الحدث، وسرعة في حسم صراعه الدرامي، والوصول إلى حلّ العُقدة بشكل خاطف ووضع المتلقي أمام نهاية تنويرية تبقى عالقة في الذهن ولا تغادر ذاكرته بسهولة. وفيلم "الحافلة الصفراء" للمخرجة المنغولية زولجارگل بيروفداش هو من هذا النمط الذي يراهن على الجانب المجازي في الخطاب البصري من دون أن يهمل كليًا لغته الحقيقية القارة.

يستدعي هذا الفيلم أن يكون المتلقي مُلمًا ببعض الحقائق الأساسية من بينها أن قرابة نصف سكان منغوليا يقيمون في العاصمة أولان باتور، وأنّ نسبة 30% من الشعب المنغولي هم البدو الرُحّل أو شبه الرُحّل، وأنّ هناك عشرات الآلاف منهم يعملون في كوريا الجنوبية ويفيدون من عملتها الصعبة. ومن يُدقق في هذا الفيلم الدرامي القصير الذي لا تزيد مدته على 18 دقيقة سيلمس هذه الملحوظات التي أشرنا إليها توًا. 

لم تختر المُخرجة في هذا الفيلم شخصية مدنية متعلّمة جدًا وإنما وقع اختيارها على شخصية بدوية مُهاجرة من الريف إلى المدينة وهي تسيتسن التي أدتها الممثلة آگنوش وأسندت إليها دور بائعة التذاكر في حافلة نقل عام. كما أرادت المخرجة أن تُثني على سائقي الحافلات العامة الذين اقترحوا على وزارة النقل أن تُخصص مقاعد للنساء الحوامل، وكبار السن، والمعاقين وأن تمنحهم أولوية الجلوس قبل غيرهم من الناس الأصحاء وهي ظاهرة معروفة في الدول المتقدمة التي تراعي حقوق الإنسان. ولكي تُسرع المُخرجة في زجّ المتلقين في صُلب الحدث فقد دفعت السائق لأن يخاطب تسيتسن قائلاً: "سمعتُ بأنهم سيركّبون جهاز قارئ التذاكر الذكيّة في الشهر المُقبل" وهذا يعني أن الوزارة ستستغني عن خدمات بائعي التذاكر وتزيد من معدلات البطالة في عموم البلاد الأمر الذي يدفع الشباب منهم إلى التفكير بالهجرة إلى البلدان الغنية بعض الشيء. لم تكن مهنة بيع التذاكر سهلة على امرأة شابة فهناك بعض المسافرين لا يلتزمون بشراء التذاكر ولا يعيرون شأنًا للآداب العامة، فثمة شخص ثمل رفض أن يدفع ثمن التذكرة وضربها وبدأ يتطاول عليها بكلمات نابية تخدش الذوق العام، الأمر الذي دفع تومور الذي جسّد دوره الممثل "بايامباجارگل" لأن يدخل في مشاجرة كلامية تطورت إلى ضرب الشخص الثمل وتعنيفه لفظيًا ثم ألقى باللائمة على تسيتسن لدخولها في هذه المشادة الكلامية مع شخص فاقد للوعي. لكنها انفعلت هي الأخرى وأخبرت تومور بأنها كانت تقوم بواجبها وأنها لم تطلب مساعدته وأكثر من ذلك فقد طلبت منه أن يتوقف عن الحديث معها، وحينما قررت النزول في الموقف القادم لأنّ أنفها كان ينزف اكتشفت أن تومور يتبعها فظنت أنه لص يريد سرقتها ولكنها ستكتشف على وجه السرعة بأنه يسكن في الحي نفسه الذي تقيم فيه وحينما رأى أن باب سياجها الخارجي معطوب جاء في اليوم الثاني وانهمك في إصلاحه من دون أن يطلب مقابلاً ماديًا لكنّ هذه الانعطافة ستفتح له باب علاقة عاطفية تنطوي على بعض الإشكالات، فتسيتسن لديها طفل في المدرسة، كما أنها تعيل أمها الكبيرة في السن نسبيًا وهي التي تتحمل مسؤولية الإنفاق على هذه الأسرة الصغيرة من راتبها المتواضع فكيف بها إذا فقدت وظيفتها وحلّ محلها جهاز القارئ الذكي؟.

تأخذ العلاقة العاطفية منحىً آخر يتطور إلى السهر خارج المنزل والجلوس في البارات والمقاهي خاصة بعد أن فقد تومور وظيفته وطُرد من عمله إثر مشادة مع رئيس العمل فاقترح عليها أن تذهب معه إلى الريف في "خوفد" التي تقع في غربيّ البلاد لكنها رفضت هذا العرض فلقد سبق لها أن عاشت في الريف وعرفت صعوبة الحياة في تلك المضارب. فما الذي تفعله ببقرتين وعشرة من الخرفان والماعز والسيارة التي اقترح عليها أن يصلحها ويستعملها كوسيلة لتحصيل الرزق الحلال؟

لا يخلو عملها كبائعة تذاكر في بلد لم يجتز اشتراطاته القروية ومنظومة قيمه البالية من صعوبة في التعامل مع المواطنين المحليين الذين لم يتكيّفوا مع متطلبات الحداثة التكنولوجية التي بدأ بعض مظاهرها في سنة 2015 خاصة في ما يتعلّق بالمسح الضوئي على الأجهزة الذكيّة. فثمة مواطن صعد إلى الحافلة من دون أن يقتني تذكرة لأنه لا يمتلك عملة معدنية صغيرة وقد وجد صعوبة جمة في تصريف عملته الورقية، فلا غرابة أن تأمره بالنزول من الحافلة مع أنه يريد أن يترجّل من الموقف القادم وحينما يمتنع تخبر السائق بأن يُوقف الحافلة لتضعه مباشرة أمام الركّاب الغاضبين.

يركز هذا الفيلم الدرامي على الحياة الأسرية المؤلفة من ثلاثة أجيال، فالجدة تضفي جوًا من الحميمية على حياة العائلة، والأم لا يكفيها الراتب الشهري الذي تتقاضاه لتسديد ايجار المنزل وفواتيره المتعددة، والابن بدأ يدرس بشكل جيد لأنه يرفض العودة إلى الريف ويفضل الحياة المدنية الصاخبة على الريف المنعزل، فلا غرابة أن يطلب من جدته بأنه يفضل البقاء في العاصمة.

أما تومور فقد بدأ يتناول المشروبات الروحية للتخفيف من الضغوط النفسية التي يعاني منها بعد أن فقد وظيفته ولم يعد بإمكانه تحمّل التكاليف المعاشية الباهظة في العاصمة، لذلك يطلب منها في المشهد الأخير الذي حسمته المخرجة بعجالة حينما جلب سيارته الصغيرة، أن تذهب معه إلى الريف لحل إشكاليته الكبيرة لكنها ترددت قليلاً قبل أن تأخذ قرارها النهائي الذي حسمتهُ بالقول: "لا أعرف كيف أشرح لك المسألة ولكنني لا أريد أن أراك ثانية"! عندها يغادر الحافلة التي صعد إليها قبل قليل لمعرفة السبب الذي دفعها للرفض القاطع لفكرته ويتجه بسيارته الصغيرة إلى قرية خوفد التي تبعد أكثر من 1500كلم عن العاصمة التي لفظته من جوفها مثل شيء فائض عن الحاجة.

جدير ذكره أن المُخرجة زولجارگل بيروفداش قد أنجزت عددًا من الأفلام نذكر منها "سلالم"، "المصباح العاري"، و "كم أتمنى البيات الشتوي" وقد حصلت على العديد من الجوائز المحلية والعالمية.