ضوء شاحب.. في الممر

ثقافة 2023/04/10
...

 لؤي حمزة عبّاس


في كلِّ مناسبةٍ، كان لنا عيد..

يومٌ يُعطّل فيه الدوام، وتُنصب أخشاب المسرح الصغير في ساحة المدرسة، ويبدأ الاحتفال..

تعيش المدرسة أجواء العيد، قبل أسبوع أو أكثر من يوم الاحتفال، جمعٌ من الطلاب الموهوبين ينسلخون من رتابة الدروس اليوميَّة، ويعيشون بهجة الأوقات المنفلتة. 

كنّا، جميعاً، نحلم، في المناسبات، أن نكون موسيقيين، أو منشدين، أو خطباء، أو ممثلين، نحيا تلك البهجة ونسمع الجرس يرنُّ كلَّ مرَّة، كما لو كان ينادي سوانا..

دخل أستاذ عبّاس، مدرّس الفنّية، الصف، ببدلته الزرقاء السماويَّة وربطة عنقه الرفيعة الباهرة ذات اللون القرمزي المنقّط، تحدّث عن أشياء لا أتذكرها، ربما عن الحفل المقبل وعن مواهب الطلبة، وربما عن أشياء أخرى لا شأن لها بالحفل والمواهب، في أثناء حديثه دخل الصف مدرّس غريب، قدّمه قائلاً:

ـ أستاذ قتيبة، اختصاص الموسيقى والإنشاد.

أذهلني، وقتها، أن يكون اسم الأستاذ الذي نراه للمرّة الأولى قتيبة، وأن يرتدي قميصاً مزهّراً، عريض الياقة بأزرار نحاسيَّة، كانت المرّة الأولى التي أعرف فيها، دفعة واحدة، أن المدرسين يمكن أن يحملوا أسماء غريبة، وأن يلبسوا قمصاناً مشجّرة بأزرار لامعة!

سكت أستاذ عبّاس وبدأ القتيبة الحديث، بصوته الذي توقعت ـ ويا لغرابة ما توقعت ـ أن يكون أنثوي الوقع، عن السابع من نيسان، ذكرى مولد الحزب التي نحتفل بها كلَّ عام، وهو، هنا، لاختيار طلبة فرقة النشيد واعدادهم ليوم الحفل، صمت قليلا ثم سأل:

ـ من يشارك في فرقة النشيد؟

طلاب قليلون رفعوا أصابعهم، وآخرون لم يجدوا في نفوسهم الجرأة، فانشغلوا بالتحديق في المسافة الفارغة بين وجه الأستاذ دقيق الحلاقة والأصابع المرفوعة.

 من جهتي، لم أفكّر يوماً بفرقة النشيد، أو أتخيل نفسي عضواً فيها، لكنني وجدتني أرفع أصبعي فور رأيت الأستاذ ينظر نحوي، سدّد سبابته إلي، أنت، قال مشيراً برأسه إلى الجانب، فخرجت.

ومع محبي الإنشاد، قطعت الممر متوجّهاً نحو قاعة التربية الفنية، ووجدت فيها عدداً من الطلبة، من مختلف الصفوف..

آخر القادمين كان أستاذ قتيبة، سلّم علينا مبتسماً، قبل أن يتفحّصنا بعينه كمن يعدُّ خرافاً، وزعنا بعدها على مجاميع، ثلاث، أو أربع، ثم كتب على السبورة، بخط مائل وحروف كبيرة، بيتاً أتذكّره بوضوح، رشق في نهايته علامة تعجب:

 غلط، غلط، غلط، 

لسنا شرياناً يضخُّ النفط للعالم فقط!

وقال: 

ـ على كلِّ مجموعة أن تُنشد البيت.

وأنطلق يُنشد قبلنا، شعره السبل يهتزّ مع كلِّ غلط، كأنه يؤكّد معنى الرفض مع صاحبه. أعاد إنشاد البيت، ثم طلب من المجموعة الأولى أن تبدأ، علت أصوات الطلاب بكلِّ طاقتها، والأستاذ يقترب منهم، يختار أحدهم ويقرّب أذنه إليه، فيبقيه في المجموعة، أو يضع يده على كتفه ويهمس في أذنه بكلمة يخرج الطالب إثرها، على الفور، عائداً إلى صفّه.

أَخرجَ كثيراً من الطلبة، قبل أن يصل الدور لمجموعتنا.

لوّح بيده، فانطلقت أصوات المجموعة، ورأيته يقترب..

نظر نحوي فتاهت الكلمات مني، غام المشهد أمامي، ولم أعد أتبيّن ما كُتب على السبورة، ولم أفهم شيئاً مما يُنشده زملائي.

وقف بمواجهتي، وقرّب أذنه من فمي الذي كنت أفتحه وأغلقه، من دون أن أقول شيئاً.

وضع يده على كتفي، وقال هامساً في أذني:

ـ صفّك.

فخرجت من المجموعة، ومن قاعة التربية الفنية، ووجدتني أمشي وحيداً في الممر الطويل بأضوائه الشاحبة، أسمع أصوات المجموعة تتصاعد منسجمة من خلفي، وكان شيء ما يتحطّم في صدري..