الذهنيَّة التجريديَّة وتوظيف الرمز في أعمال هادي ماهود

ثقافة 2023/04/11
...

 زهير الجبوري 


تتضح تجربة الفنان التشكيلي العراقي هادي ماهود في محتواها التجريدي، وتأخذ على عاتقها الانسراح الكبير في توظيف الرمز والغور في تفاصيل الشكل الى درجة عالية من الحضور الفني المؤطر بعلامة النوع، وأعني هنا ما انطوت عليه رسوماته التجريديَّة المعبَّأة بأفكار خاصة بسيمائيَّة الشكل المشتغل عليه، فهو فنان يدرك مساحاته داخل اللوحة، ويقف عند ثيمات دقيقة يغور فيها بدقة بغية التوصل الى فكرة معينة، ربما لأنّه أدرك أن ما طرح من أفكار وأساليب أخذت مساحات واسعة، غير أنّه انطلق الى أبعد من ذلك عندما أمسك بوحدة موضوعته عبر أدائيَّة محسوبة لفتت الانتباه.

التشكيلي هادي ماهود، واحد من فناني الفن المتجدد في موضوعة التجريد، حيث أفاض لنفسه فتح شفرات الشكل وإعطائه أبعاداً كبيرة، وهي ناتجة عن إدراك اللعبة التشكيليَّة مع الاستفادة من التجارب السابقة لفنانين كبار لهم تجربتهم الكبيرة في الموضوع ذاته، ومع نتاجات عديدة قدمها في معارض شخصيَّة وأخرى عامة، نلمس قدرته على التفرّد في توظيف الشكل الى مشروع خالص وحده، مثلا لوحاته لثيمة (السمكة) و (بعض الحيونات كالقطط والذئاب)، ثمّة شهيَّة تلقي تنطوي على متعة خالصة لمنظور هائم بالمعنى، فلحظة التلقي لهكذا أعمال هي لحظة قراءة ومتعة، حيث فلسفة توظيف المضمون عبر إنشاء دقيق، هو ذاته توظيف المعنى، كما أشعر أنه أكثر فناني هذا اللون حساسيَّة، لأنّه باختصار شديد يدرك حجم مسؤولية اختياره لموضوعة التجريد التي يتنوع فيها بتعبيرات رمزيَّة وأخرى تجريديَّة خالصة.

إنَّ مسألة استمرار الفنان في أسلوبه هذا واختياراته المطروقة، لم تقف عند حدود معينة، إنما كانت له تجربة مناظرة في لوحات خاصة بالوجه الآدمي، ولعلني لا أريد الإشارة إلى أن الوجه هنا هو (البورتريت) ـ بكل أبعاده وقياساته المعهودة ـ بل العكس، هو الوجه التجريدي لشخصيات معروفة اختارها بنفسه لأغراض موضوعيَّة هو من يعرف أسرارها كـ (الجواهري، والسيَّاب، والنواب، أدونيس، وغيرهم)، وحين تغور في تفاصيل كلّ وجه، تتضح فيه خارطة من التفاصيل الدقيقة لملامح أُظهرت عبر ثنائيَّة الشكل واللّون، مثل هكذا لوحات تتصل بتجانس ثقافي متداخل لشخصيات لها تأثيرها الثقافي في الساحة العراقيَّة والعربيَّة، فوجه كلّ واحد، إنما يعطي البعد الدلالي والمعرفي معاً، مع الإشارة الدقيقة المضمونيَّة للشكل وما يحتويه علامات بارزة، و (ماهود) هنا، لم يعكس التصوير (الفوتوي)، إنَّما إبراز الوجه التشكيلي/ الثقافي/ المعرفي، لتكون لديه مسألة متقاربة الأبعاد، وهناك بعض اللّوحات إنساقت إلى أبعاد مفتوحة للوجه، وتحتاج إلى قراءة عميقة، لأنّها وُظِفتْ للتلقي ودقة 

القراءة.

إنمازت تجربة الفنان هادي ماهود في اشتغاله التجريدي الى المضمون الملحمي ـ الى حدٍّ ما ـ من خلال لعبة التقارب بين الثيمات المرسومة، ومحاولة خلق مشهد تشكيلي له دلالاته الانفعاليَّة، بل أخذت مساحة مؤثرة وبرزت هويته في هذا الاشتغال، فحين نمعن النظر في لوحة تعبر عن وجود علامات للذئاب مرسومة بلون قاني وبشكل هائج، مع أفراد آدميين، هو استقراء مضموني انطوى على جدل الواقع المعبر عن حالات ملموسة وحاصلة في حياتنا، مع الإشارة إلى استخدامه الألوان القانية مع الألوان المضيئة لتشكل (كونتراست) بارزا وواضحا، وله توازنه العياني، ومنظوره الشكلي.

التشكيلي هادي ماهود، مثل كلّ الفنانين الذين تفتح ذهنيتهم على ما هو جديد وحديث في الفن التجريدي، ومن خلال متابعتي لأعماله، فقد استطاع أَنْ يرسم له لوناً خاصاً ومتفرداً من حيث تركيباته الّلونيّة، واختياراته المضمونيَّة للمواضيع التي يختارها، فأحياناً نمسك في بعض لوحاته وهو يرسم (أجساد النساء) بطريقة تشير الى بصمته في الأداء ـ أولا ـ وتركياته الّلونيَّة ـ ثانيا ـ ما يبرهن أن مشروعه يمضي قدماً عبر مخيلة تتجدد وتبتكر الإضافات، وفي اعتقاد خاص، يمكن قراءة ذهنيَّة الفنان (ماهود) أنّه يبحث عن مختلف ومثير عبر تفكير دقيق لكل عمل يشتغل فيه، لأنّه يدرك تماما أنَّ الساحة التشكيليَّة العراقيَّة والعربيَّة مليئة بالأسماء وبالتجارب المهمة.

ولعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه ونحن نغور في تجربة الفنان هادي ماهود وعوالمه التجريديَّة، ما القيمة التي وصل إليها، وما مدى التآصر الذي أنتج منه فناناً متطلعاً لجديد اللّوحة التجريديَّة..؟

ربما نستفهم من ذلك أن واحدة من أهم ما استخلصنا في تجربته، أنه يتعامل مع كل تجربة أو لوحة بأبعاد ومقاسات مختلفة (وهنا لا أعني موضوعات)، الأمر الذي نلمس فيه بعض الأعمال وهي تأخذ مساحات واسعة كالأعمال الجدارية ـ مثلا ـ  ما يؤكد التنوع الذي أشرنا إليه، أو ما شاهدنا عيانيَّاً.