أثر الفلسفة في حياة المثقف العراقي

ثقافة 2023/04/11
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

الفلـسفة بأشرعتها السابحة في فضاء البحث والتفكير، بعيونها المحدقة في العالم لفهم غوامضه وواقعه، بعمقها الذي تنظر من خلاله في العلاقات المتعددة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع، بكل آلياتها التي تحلل وتفسر وتتأمل وتنقد عبرها، ماذا فعلت بالمثقف العراقي. أين ذهبت بحياته، وماذا أضاءت من مصابيحها في دروبه المتشعبة بالحروب والفتن والتردي السياسي والاقتصادي، كيف تسرّبت مفاتن أسئلتها إلى دهشته، وكيف خلقت واقعاً جديداً في مضامينه المعرفيَّة وقناعاته المتعلقة بتفاصيل الحياة ويومياتها والعالم ونشأته ونهايته.  



الفلسفة بهذا المعنى الكبير، ماذا تركت من أثر في حياة مثقفينا، أي الفلسفات كانت أقرب لهم قراءة وتطبيقاً، أي الفلاسفة أحبوا فكانوا مثالاً في حياتهم العمليَّة، أي الكتب الفلسفيَّة كانت هي الأهم بالنسبة لهم. 


نقد الموروث ومراجعة المتبنيات 

أستاذ الفلسفة في كلية الآداب بالجامعة المستنصريّة الدكتور علي المرهج تحدث في إجابته عن تغيير الفلسفة للكثير من قناعاته، مشيرا إلى نشأته في بيئة ثقافية واجتماعية فيها حمولات عقائديَّة وأيديولوجيَّة تجعل المرء يعيش وعيًا إحاديًّا، لافتا إلى أن ذلك لم يمنع من وجود مدارس فيها حرص عالٍ على بناء الطلبة بناءً علميًّا..

وأضاف المرهج وهو يتحدث عن أثر الفلسفة في حياته قائلا: دفعت الفلسفة بي إلى ولوج عوالم جديدة فيها انفتاح على ثقافات متعددة تمنح الفكر رحابة في قبول الآخر المختلف، الأمر الذي دفعني إلى مراجعة متبنياتي وإعمال النقد على الموروث بما يجعله مادة قابلة للفحص والتمحيص، لا قبوله كما هو وكأنَّه حقيقة نهائيَّة.

ميزة دارس الفلسفة الذي ينتمي لفضاءات التفكير العقلاني النقدي، أنه يمارس النقد حتى على ذاته ويكون سؤال (لماذا وكيف) أصيل في تفكيره.

الفلسفة لا تنتمي إلى فضاء ثقافي محدد، تجدها كونية المعرفة لأنها تبحث عن الإنسان بما هو إنسان بمعزل عن جنسه وأثنيته، لذلك يكون خطابها خطابا لكل شخص يعيش بشكل مستقل يؤمن بقدرة عقله على التفكير ولا يسلم عقله بيد آخر يفكر بالنيابة عنه..

أما عن أقرب الفلسفات لي فهي الفلسفات الواقعية التي يتحرك فيها التفكير بحكم تحديات الواقع ومحاولة إيجاد حلول لمشكلاته، لذا أجد في الفلسفة البراجماتية أكثر فلسفة صالحة لحل مشكلة الصراع في العراق لأنها تؤمن بأن قيمة الإنسان مرهونة بما يقدمه من نفع لوطنه، ومقياس مواطنته يكون على هذا الأساس، وأن كل إنسان له حقوق وعليه واجبات، والجميع متساوون أمام القانون..

حلت الفلسفة البراجماتية مشكلة الصراع بين الوافدين لهذه الارض الجديدة أمريكا لينسجموا بفضل البراجماتية مع السكان الأصليين، بل وتحسم الصراع بين الوافدين أنفسهم على اختلاف أصولهم الثقافية والعقائدية.. من الكتب الفلسفية الأقرب هي كتب وليم جيمس وجون دوي وبرتراند رسل وقبلهم نيتشه..


التبعيَّة وتشكيل الذات العارفة 

الشاعر الدكتور عمار المسعودي، يجد في إجابته أن الفلسفة هي كنه الوجود وأن المرء يتمكن بها من التوازن والتصالح، بعد أن تزيل عن عينيه طبقات متراكمة سود تفصله عن حقائق الوجود ما يجعله في الفراغ بلا أي مرفأ ولا متكأ ولا معتقد ولا مستند، على حد تعبيره.  

فهو يرى أن الفلسفة هي العون الوحيد في معرفة جواهر العناصر وكنهها وعمقها، تزيل عنك معرفتها ما يلتبس عليك ويكون حجرا يكاد يمنعك من سبر الوجود عارفا بخفاياه وأسراره. 

وأضاف المسعودي بقوله: هي البحث الدائب في غياهب الوجود هي إخراج الإنسان من دائرة التبعية والاقتفاء إلى مرحلة العلمية والحرية والتفكير هي رحلة الذات من الغيب إلى الوجود، مع الفلسفة تتشكل الذات العارفة الرائية بدلا من الذات المنكفئة تلك التي تعيش بقالب واحد ما يكسر كل الأغصان التي تحاول النمو بعيدا عن النمطية والتلقين والإملاء.

أما علاقة الفلسفة بالثقافة فهي علاقة جوهرية إذ لا يمكن لشخص أن يتثاقف خارج مناهج الفلسفة وأسئلتها التي تحاول جراءها تحريك الساكن هذه الحركة هي التمرد والرفض والمشاكسة والتوافق والتخاصم والتقارب والتباعد.

الفلسفة هي الموازين وهي المكاييل التي لا بدَّ لمن يريد سلك درب الثقافة أن يعرف وزنه وكتلته التي لا بدَّ أن تكون على حسب منظومات الفلسفة ووفقها. 

بدأ الكون يوقد المصابيح حينما عرف الفلسفة مجيبًا عن أسئلتها الأولى عن سر هذا الوجود وكنهه. 

هي طريقة تفكير تحكمها العناصر الأولى للثقافة أيا كانت ولدى ذاكرة أي شعب استقرت.

على مستوى الشعر فإن الفلسفة تمسح عن الشعر غليان العاطفة وهي تقف معادلا لانهماك الشاعر بموضوعاته بلا رؤية عميقة تمنح للمتن الشعري امتدادا بدلا من هذه الحدود الذاتية وهي تمسك بتجربة الإنسان بطريقة تجعله يصل إلى الحقيقة بعاطفته المشوبة بتوتر حسِّي في أحسن أحواله قد يتبادل مع الذهني مقارباته ما يقدم النص بقشرة خارجية لا طبقات تقشر منه تمثل رؤيته للكون وللعالم.

النص الحديث من سر نجاحاته 

أنه داهم العاطفة الفائضة مبدلا بها التأمل مما يمنح الشعريَّة انتقالا مهما من مباكرة الكون وفطريته التي لا يمكن أن يكون لها أي مجدٍ من دون الانتقال إلى التدوينيَّة الكتابيَّة التأمليَّة.

 فضل الفلسفة على الإبداع هو تخليصه الذات الملغّمة للمبدع وتركها ترى الكون بعين محدودة عاجزة. 

كل الفلسفات لها أهمية كبيرة كونها تحرر الذهن جاعلة منه ذات أجنحة تحلق بها غابة الوجود. 

يمكن أن تكون الفلسفة الماركسية هي الفلسفة المنحازة لأحلام الفقراء والمسحوقين كونها قد أنزلت الفلسفة من عليائها إلى الواقع فاحصة أنساق السلطة والرأسمال.


المسافة بين سلطة المعرفة والمَعِيش

مدير الملتقى الفلسفي في كربلاء، الدكتور سليم جوهر أشار إلى بدايات تشكل الوعي لديه مع رؤيته لمكابدات الانسان إذ بدأت تتشكل أسئلة تتعلق بالجدوى وتنتقد الذاكرة المخرومة التي تنتهك (الصدق والصداقة والأخلاق والقيم السائدة والمقولات الحاكمة) على حد تعبيره.

لافتا إلى أنه في خضم خلخلة الثوابت والهزات الجوانيَّة واشتداد القلق وتمزق الوجدان وهيام الروح كان الدين المسكن لكل ذلك عبر التسليم لكنه واجه العقل وشكوكه المستمرة فحل صراع جديد جواني عوضا عن الصراع مع الواقع وتمثلاته. 

وبيّنَ جوهر قائلا: في هذه اللحظة تعرفت على مفكر هو (محمد باقر الصدر) استطاع بفكره المتوقد ورؤيته العملية ان يجيب عن الكثير من الأسئلة الشائكة فتشكلت رؤيتي الفلسفيَّة بخلفيَّة دينيَّة. 

درة حياة العقل لا يمكن لها ان تستكين فتولدت أسئلة جديدة على مستويات أخرى فكان لا بدَّ من البحث عن إجابات جديدة من خارج الأطر القديمة، وهكذا تستمر دورة حياة الأسئلة والبحث عن الإجابات التي قد لا نجدها فيكون السؤال هو أساس البحث والفكر الفلسفي والجواب عرضي للسؤال. 

 فالفكر الفلسفي يتوجه لفهم ما يعنيه وجود أفكار، توجهات، أوضاع للصراع تربك الحياة.

فما نحتاجه من الفلسفة على قول دولوز بكون الفلسفة في أحد أوجهها هي التفكير بالحدث فإنَّ الواجب الوحيد لها هو أن تظهر لنا بأن علينا الاختيار في مواجهة الحدث لا أن نبقى في دوامة التيه أي أن تكون الفلسفة موجهة لنا بأن يكون (التفكير كخيار/ التفكير كقرار) فالفلسفة هنا تنظم العلاقة وتوجهها بين الفكر (كتفكير) والوجود (كحدث) وتشكل المسافة بين سلطة المعرفة والمعيش. 

الفلسفة تقول لنا إن الجمال والحب (كمعيش) هو ما يقاوم حالة الاغتراب التي تعانيها الانسانيَّة فهي ليست انعكاسا لفكر فيلسوف مختص وحصري بل هي "قائمة على المفارقة على وضع يتضمن تمزقا" فهي الفهم من خلال إيقاظ السؤال لأنَّ ثمة قرارات وأحداثا تؤدي الى صراع وتمزق. 

لذا يجب على المرء أن يختار أن يشارك في صياغة الحدث. 

الدعوة للفلسفة (بكونها تخصصا حصريا) وغير قابلة للفهم ولا للتبسيط هي دعوة لإبعادها عن الحدث اليومي (بكونها تفكيرا في الموجود) وتخلي الفلسفة عن الحياة وكيف يجب ان تكون معيشا.

فلسفة المعيش ليست دعوة شعبوية للفلسفة، بل أن تكون الفلسفة خياراً وقرار يتشارك فيه الجميع لمعيش أفضل في حياة أجمل. 


الأرضيَّة المشتركة للتفاهم 

الإعلامي حيدر الحاج، يضع الفلسفة بالنسبة للإنسان بمنزلة الكهرباء فهي أما تجعل حياته أفضل أو أنها تقتله إن تعرض لفيض شحنات زائدة عن إمكانية جسمه، وافترض الحاج بإجابته أن يكون المثقف مهندساً قادراً على تنظيم جرعات الفلسفة بأسئلتها الكبرى ومقولاتها التي تعنى بإعادة قراءة الأوّلانيات ومراجعة البديهيات لتطفو بها من عمقها الجوّاني كمسلّمات إلى سطح الشك المؤدي إلى تأسيس معرفة ذاتية من دون الاعتماد على استهلاك المعلّبات الفكرية الجاهزة. 

وأضاف مبيّنا: في هذه المرحلة التأسيسية تكمن خطورة تناول الفلسفة، فبعض قرائها اكتفوا بالمرحلة الأولى وهي مرحلة هدم كل ما هو بديهي ومسلّم من دون بناء بديل مفهومي كوجهة نظر ذاتية عن الوجود أو المعرفة أو الإنسان..، فقد هؤلاء آصرة التواصل وبالنتيجة وقعوا في العزلة وحتى النكوص والتعامل بسطحية أو بعمق واهم، من هنا يوصف هذا النوع من قراء الفلسفة بالجنون أحياناً، إذ فقدوا الأرضية المشتركة للتفاهم.

وقال أيضا: النوع الثاني من قراء الفلسفة تقدموا خطوة عن مرحلة إعادة النظر ببنية التفكير وفهم الأشياء وصارت لهم رؤية وفهم شخصي عن ذواتهم وما حولهم، هؤلاء كالأكاديمي حاصد درجة الامتياز باجتهاد واستحقاق الذي عندما تناقشه بموضوع فلسفي يثري الحديث ويشبع رغبتك بالمعرفة؛ لكن هل يكفي هذا؟ لا.

ثمة نوع ثالث من المثقفين قراء الفلسفة، الذين يسقّطون معرفتهم الذاتية على إدارة شؤونهم الشخصية والاجتماعية وحتى الإنتاجية.

إذ تتحول قراءاتهم الخاصة إلى سلوك عملي يوفر لهم طرقاً للخروج من المشكلات؛ بل يحوّلون أحياناً صعوبات الحياة والعقبات اليومية إلى قصة نجاح بسبب الحضور الذهني المزدوج، 

يحلّلون الموضوعات ويطرحون الحلول بمعالجات آنية سريعة، لما وفرته الفلسفة لهم من بصيرة في التكهنات ومَلَكة التعامل مع الخلاصات.

يعيشون حياتهم بفن، حاضري البديهة خلّاقي النكتة مبتكري الأفعال الإبداعيَّة.. لذا المثقف من هذا النوع أينما يقف يكون مركزاً تتحلّق حوله الذوات الأخرى. 


التجريب والنسبيَّة والشك 

القاص إبراهيم كمين الخفاجي قال: لعلاقتي بالفلسفة عتبات أولى، منها أحضان وحكايات جدتي عن الجن، وبنات نعش والثريا وسهيل، هذه بمثابة دروس عملية لمواقع وحركة النجوم والكواكب والأبراج، وتحول الفصول، ولاحقا في مرحلة الشباب أقتنيت ما يلزم لرصد السماء على مدار العام بالساعة واليوم والشهر والسنة، وهذا النشاط العملي قرّبني لعلوم الفلك وزعزع السائد المتوارث عن تأثير النجوم والكواكب والأبراج.. هذه الأسئلة كانت البذرة التي نمت في داخلي، وكلما حصلت على أجوبة تبرعمت وتفرعت أسئلة أكثر، والكثير منها تطمح لأجوبة فيها عدة مبرهنات.. وهذه هي التي جعلتني أدرك أهمية الأسئلة واستفهاماتها وما تحتاجه من استعلام حقيقي أو مجازي، أو تعجب وتمني وتقرير، أو نفي، أو تحضيض، أو توبيخ، وتهكم، أو استهزاء.

وهذه لها الفضل بانتشال منظومة تفكيري من الركود والانغلاق والركون إلى المسلّمات والتجريد والمطلق من البداءة، إلى الانفتاح والتجريب والقوانين، والمبرهنات، والنسبية، والشك. 

هذا ما فعلته بي الفلسفة بمعناها الكبير والمتشعّب. 

وتركت في حياتي محطات وبصمات. 

فاخترت الرصد والتأمل والتجريب واستنطاق العقل الباطن أو ما يسمى اللاوعي واللاشعور للمجتمع والأفراد، والثقافة، والأفكار، والعقائد.  

وقال الخفاجي أيضا: من هنا لم أقف في محطة فكرية أو فلسفية واحدة، بل، واكبت السير صوب محطات ومدارس فلسفية. 

فتأثرت بفلسفة اللذة وفلسفة الشك، وفلسفة تكوين العقل العلمي وفلسفة الديالكتيك وهذه الفلسفات شكلت هويتي المعرفيَّة والفكريَّة والسلوكيَّة. 

أما الفلاسفة الذين أحببت أفكارهم وفلسفاتهم فهم  أبيقور فيلسوف اللذة التي تنشد الوصول للحياة السعيدة، بتحقيق الطمأنينة والسلام والتخلص من الخوف، فالسعادة والألم عند أبيقور، مقياس الخير والشر.

وفلسفة الديالكتيك لماركس، التي شيدها على ثلاثة قوانين رئيسية. هي قانون النفي، ووحدة صراع المتناقضات، وتحول الكم إلى كيف.  

وفلسفة تكوين العقل العلمي لباشلار، 

الذي يقول: في الكتب التي تنتظر القارئ هناك مسافة بعيدة بين الكتاب المطبوع والكتاب المقروء، والكتاب المفهوم المستوعب، المحفوظ، فثمة مناطق غامضة، كهوف، حتى لدى العقل المتنور، حيث تواصل الظلال حياتها.

وفلسفة الكوجيتو لديكارت، أنا أشك أنا موجود هذه الفلسفة ذات الجذور الممتدة إلى فلسفة الشُكاك القائلة: ليس باستطاعة الإنسان الوصول إلى الحقيقة إلا من خلال الشك في صحتها.. والفلسفة عند ديكارت، وحدها القادرة على حمايتنا من أشد الكائنات وحشيَّة وبربريَّة.

أما سؤالك عن أي الكتب الفلسفية كانت 

هي الأهم بالنسبة لي. فالجواب هو كتب لماركس وباشلار وديكارت وفرويد، 

وروسو وفولتير وبرتراند راسل، ومن المفكرين العراقيين نوري جعفر وعلي الوردي، 

وحسام الألوسي، ومدني صالح، وقيس النوري، علي حسين، وقاسم حسين صالح وغيرهم من الأسماء المهمة في عالم الفلسفة والفكر.