الأصوات الشِّعريَّة الأبديَّة

ثقافة 2023/04/11
...

 ملاك أشرف


هُناكَ أصواتٌ سماويَّةٌ أو بالأحرى ملائكيَّة، مألوفة فقط لأولئكَ الّذين يتذوقونَ الأدب ويصغونَ جيّدًا لصدى الشِّعر، ذلكَ النّوع من الأشخاص الّذي يمثلُ الأدب بالنّسبةِ لهُم حياةً وضوءًا بلا ريب، فهُم ممّن يتردّدونَ على المكتباتِ والأجنحة الشِّعريّة دومًا بغية التّنفس أوّلًا والعثور بفارغِ الصّبر على نماذجَ مُشابهة لذواتهم الذّاوية الهشّة ثانيًّا.

فها أنا ذا واحدة من هؤلاء المُحبّين العاكفيّن على الكتب الأدبيَّة والصّفحات الشِّعريّة، لَمْ يكن الشُّعراء وشِعرهم أكثر من دافعٍ للنجاةِ ووسيلةٍ للمواساةِ والدّواء وتذكرةٍ للرحيلِ عبرَ قطارات الكلمات الرُّومانتيكيّة العَذبة بالنسبةِ إليَّ وللكثير من التّواقين إلى الوصولِ لذلكَ الفضاء اللّامع والغيمة البيضاء المُبتسمة، بعيدًا عن أيَّامهم الشّاحبة المُتجهّمة.

أقرب أنموذجًا للأصوات الشِّعريّة الأبديّة الشّاعرة الإنكليزيّة شارلوت ماري (Charlotte Mary Mew) تعدّ من الشّاعرات الّتي ولدت صدفةً في حياتي من دونَ تخطيطٍ وتفتيشٍ منّي أبدًا، قرأتُ الصّحف الإنكليزيّة وإذا هي أمامي تلوّحُ لي من أجلِ التّرجمة والحديث عنها أدبيًّا، هكذا تعرفتُ عليها بمُنتهى البساطةِ والبهاء أو لِنقول معرفة في غايةِ الهدوء، الرّقة والصّفاء الذّهني، قد تكون القراءةُ بأكملِها ضربًا من البهجةِ، العذوبة والنّقاء؛ لذا كرّستُ نفسي لها ولدراسةِ الآداب مدى العُمر المُغترب المنفي.

ولدت الشّاعرةُ شارلوت ماري قبلَ أشهر مجازيًّا وفي الخامس عشر من نوفمبر اللّندنيّ من عام 1869 حقيقيًّا، عاشت نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين أيّ في أهمّ فترة أدبيَّة شاعريّة، غنية بالأُدباء عامّةً والشُّعراء خاصّةً، أصبحتْ شاهدةً على حقبةِ اليقظة الفكريّة والنّهضة التّنويريّة إلّا أنها نالت لقب المرأة الرّماديّة المأساويّة بامتيازٍ؛ جراء طبيعتها المُستقلة الغامضة وتكوينها المُرهف الحزين فضلًا عن تركيبتِها الضّعيفة المُعقّدة الّتي لا يرضيها شيءٌ، لا أنسى الأحداث المُخيفة الوحشيّة الّتي طالت فترات حياتها بدءًا من موت والدتِها ووفاة ثلاثة أخوة لها نتيجة مرض لا ينفكُّ عنهم وصولًا إلى جنون آخرين منهم وراثيًّا، كم كانت شارلوت العبقريَّة إذن تعسةً مُضطربةً، عالقة في المصاعب وقلبها لا يكفُّ عن النّزيف!

ظفرت بثناءِ وإعجاب الشّاعر الأمريكيّ عزرا باوند، رائد الشِّعر الحداثويّ لا مُحال، أمسى العالمُ أشدّ مرارةً من الدّموعِ من وجهةِ نظر الاثنين، إذ رغبت شارلوت بالاختباء تارةً والكتابة والنّشر تارةً أُخرى، هُنا يكمنُ الإلهامُ والوحيّ الشِّعريّ في مسيرةِ الإنسان التّأليفيّة، هُنا يربحُ الكاتبُ تبعًا للاضطراب والتّعارض رصيدًا من المُفرداتِ والجمل التّصويريّة المُتباينة، النّاجمة عن رغبةٍ مُلِحّة لاِنتشال الرّوح من القاع.

بقيّت شارلوت ترفضُ إعطاء المُحرّرين أبسط تفاصيل سيرتها الذّاتيّة وأيسر معلومات نمطها القصصيّ أو الشِّعريّ؛ ممّا أفضى الأمرُ بِها إلى النّسيان والحال القابع في الظّلِ المجهول، أيضًا كانت قليلة النّشر، مُتقطعة الكتابة وكئيبة فهذا جعلها في منطقةٍ منسيّةٍ، من الصّعوبةِ إيجادها والتّعرف عليها باستثناء الدّقيقين المُستمرّين في القراءةِ والبحث عن شخصيّاتٍ ذات تجاربَ ناضجةٍ مُمتازة في التّراث والكلاسيكيّات المُتقنة الجذّابة.

أحدثت شارلوت الجرِيئة ثورةً آنذاك؛ بسبب حُريتها وجولاتها السّياحيّة إلى فرنسا وحيدةً إلى جانبِ تدخينها وتصرفاتها غير السّائدةِ ولا المعروفة عندَ النّساءِ والعصر المُغلق المُقيّد غير المُنفتحِ حينئذٍ، كما ناصرت رغمَ عزلتها ومأساتها قضايا المرأة وحقوقها، إذ دعت إلى حُرّيتِها واستقلالِها الفرديّ وتجرّدها من الأصفاد.

بناءً على أفعالِها وعباراتِها الواعية الصّاعقة ارتبطت بعلاقاتٍ عدّة طيّبة لطيفة مع أُدباء برّاقين منهمُ: فرجينيا وولف، توماس هاردي وجورج غوردون بايرون. كتبت مجموعةً قصصية ساطعة لكن غلبت شاعريتها على طابعِها الرّوائيّ، أثبتت بأن مهما تمتع المرءُ بذكاءٍ خالصٍ ومواهب لا نهائيّة فداخله الشِّعريّ هو مَن ينتصر على الجميع في الأخيرِ، الشِّعرُ مقرونٌ بالفوزِ والزّهو الحتميّ السّرمديّ ويؤطّرُ كُلَّ عملٍ أدبيّ فنّي لا مناص، يتوشّحُ الإنجازُ بهِ فيدنو من البقاء الحياتيّ المديد كالينابيع.

تستدعي قصائدُها قارئًا للمكتوبِ أو مُتأمِّلًا في الكتابةِ وليسَ قارئًا للصياغةِ المُسترسلة قط، إذ الغزير من النّاسِ لا يقرؤونَ الكتابةَ إنَّما يقرؤونَ السّردَ فحسب على حدِّ تعبير “هيرفي غيبير” وشتان ما بينَ الحالتين.

قيل إنها قطعت شوطًا طويلًا نحوَ تحديد نغمة سمعتها المُبهمة المُحبطة وسمة أشعارها المبنية على النّسقِ الغنائيّ الدّراميّ في الوقتِ نفسه. تلقّت حماسًا شديدًا حولَ إنتاجها الشِّعريّ الضّئيل الفريد وتعليقاتٍ قويّة لافتة من زملائِها الكُتَّاب.  نُشر كتابها الشِّعريّ الأوّل، المعنوّن بعروس المزارع (The Farmer›s Bride) عام 1916، يمكن أن نصنفه ضمن سونيته عجيبة حزينة وصادحة، كذلك سونيته بإيقاعٍ مُبرِّحٍ باهر ونُوَاح وفقًا لثقافتِها الفرنسيّة وزياراتِها الدّائبة لباريس واطّلاعها المُكثف قبلَ تأليفِ هذهِ المجموعة الرّفيعة، مُستندةً إلى قدرتِها السّرديّة المُنظمة الهائلة وخيالها الخصب في نسجِ الجمل، المُكتسب من القصصِ الاحترافيّة الّتي كتبتها غابرًا -بالطّبع- وبعضهم يا للمُفاجئة نسبَ ما كتبتهُ إلى الشِّعر الجورجيّ؛ نظرًا لما عليهِ أعمالها من لونٍ حسِّيّ غير عاديّ وروحٍ أكثر صمتًا من العيشِ الصّاخب الفوضويّ، يتراءى لنا تسريب ذاتها وقناعاتها بينَ مُنتجِها الأدبيّ قطعًا!

تهبُ تلكَ القصائدُ حاسةً جديدةً للتنفسِ وتطهير الأعماق أو رؤيةً تجذّبُ التّائه وقتها إلى الشّفاءِ ونسائِم الخلاص، تؤيد أشعارها قولنا بإنّها تنبع من شاعرةٍ تنوب عن نسيمِ الشّفاء لا شكّ.

تجنّحُ مُعظم قصائدها المُسهبة غالبًا إلى وصفِ الخيبة، الوداع والغياب والحنين، ثمّة حضورٌ للمسيحِ فيها بمثابةِ الرّمز الوصفيّ للمُعاناةِ والصّلب. أجدُها تقولُ في إحدى المقطوعات مُستعملةً أسلوب الماضيّ الفاقد لليقينِ، الّذي يعوّل على الذّاكرةِ: “أحيانًا أعرفُ طريقكَ/ أنتَ تخطو على الخليجِ/ إنّها ريحٌ من ذلكَ البحر البعيد/ تضربني محملةً برائحةِ شَعركَ،/ عيونكَ كانت نجومًا بالنّسبةِ إليَّ/ وهُناكَ تفاصيلٌ قد لا تراها النّجوم”.

تتكلّمُ عن الوحدةِ، انعدام الإنسانيَّة، الإهمال وإحساس الطّبيعة بالبشرِ وارتباطها بِهم بطريقةٍ غريبةٍ، تذهبُ قائلةً اِرتكانًا إلى رمز الجمع (الغاب) المُتعلقة بهِ النّزعة الرُّومانسيَّة، المُندفعة وجدانيًّا: “مَن تركَ طفلين نائمين في الغابِ طوال اللّيل؟/ وكيف هبطت الطّيور وغطتهم بالأوراقِ؟”.

وعن عدم المُبالاة والجري خلفَ النّاكرين اللّئيمين تقولُ مُعتمدةً على كلمةِ (أعرج) الّتي حروفها تعطي معنًى مُتمايلًا قلقًا: “قلبي أعرجٌ جراء الرّكض سريعًا وراء قلبكَ/ هل نمشي بطيئًا إلى المنزلِ، /وننظرُ إلى كُلِّ الأشياء الّتي صادفتنا اليوم؟”.

لا تخلو مقاطع أشعارها من الحديث عن الأشهرِ والفصول وعلى وجهِ الخصوص الرّبيع، البحر والرّياح والتّقلّبات المناخيّة الأُخرى، نشعرُ بكُلِّ حدثٍ وإن كانَ صغيرًا في قصيدتها الصّادقة، الّتي تمخّضت عن انفعالٍ حقيقيّ ونظرةٍ مُتبصِّرة نادرة وإنصاتٍ رهيب إلى جوارِ لُغتها الجليّة السّلسة والرّشقة بالتّأكيد، فها هي قصيدتها (أُغنية) تجسد بتشبيهاتِها حقيقة الحُبّ الهُلاميّ وما قلتهُ الآن: “أعشقُ الحُبَّ اليوم يا عزيزي/ فالحُبُّ ليسَ دائمًا هُنا/ كالخادماتِ الحكيمات/ اللّاتي يعرفنَّ كيف تنمو قريبًا/ أوراق الرّبيع الخضر/ لكن ولا واحدةً تعرفُ أينَ ترحل عندما تهبُّ الرّياحُ/ شيءٌ عاجزٌ حقًّا”.

انزلقت شارلوت في كآبةٍ حادّةٍ مهّدت لها التّراكمات المُتعبة والوحدة الشَّجنة المُعاشة لِتؤدي بِها في المحصلةِ النّهائيّة إلى نقطةِ الانتحار، هذهِ المُغادرة الشّائنة الوحشية بحقِّ نفسها الرّقيقة. كانَ جميع هؤلاء المُنتحرين على علمٍ بمحطّتهم الأخيرة الّتي لا رجعةَ فيها أو خواء التّقدّم إلى أماكنٍ جديدة مُغلفة بالأملِ، السّنا والبلسم المُساعد لإكمال الحياة الشّبحيّة في جوهرِها ولو قليلًا، ثُمَّ يرفضونَ ما هو متوهّجٌ لاِلْتِصَاق الخذلان بهُم والأسى الخطر الّذي دفعهم إلى الاستسلامِ الشّديد، فقدان المقدرة على التّركيزِ والتّحطم أو كما خطّت شارلوت تمامًا في قصيدتِها المشحونة بتيارِ الألم وملامح النّفاد (ليسَ لتلكَ المدينة): “نحنُ مُتعبونَ، عندما يُقال كُلّ شيءٍ/ كُلّ الأفكار، إذن انتهى./ نحنُ نجهدُ أعينُنا وراء هذا الغسق كي نرى/ ماذا عن عتبةِ الخلود، علينا أن ندخلها؟/ لا، أعتقدُ نحنُ نتجنّبُ روعة ذلكَ الوهج الدّائم/ وضجيج تلكَ الأُغنية الّتي لا تنتهي!”. 

رُبَّما كوّنوا مشهدًا مُريبًا هجينًا عن الحياةِ مثلما تخيلتهُ رفيقةُ شارلوت فرجينيا وولف حينما دوّنتهُ على الورقِ ساعتئذٍ، تركتهُ لنا كالآتي: “لماذا الحياة مأساوية إلى هذا الحدّ؟ مثل معبر ضيق فوقَ هاوية. أنظر إلى الأسفلِ أشعرُ بالدّوارِ وأتساءلُ كيف سأمشي حتّى النّهاية؟”.

ربَّ لحظةٍ يكون الموتُ فيها هو النّجاةُ بعدَ أن تصبحَ الجروحُ مُستحيلةَ الالتئام ويصيرُ تلاشي التّوازن الرّوحي واضحًا للعيانِ، إذ الأيَّام تتضافرُ مع بعضها بعضًا لِتحرّكَ الفرد إلى الاِنهزام والخُضُوع للرحيلِ الشَّنِيع المُدرك أن الهاوية لا تريدُ الانتهاء.. “هذه السّنة تبدو شيئًا مُختلفًا/ لن أُفكرَ فيكَ/ لكني سأحبُّ الرّبيعَ لأنّهُ ببساطةٍ ربيعٌ/ كما تفعلُ القلاع. / سأظلُّ باردةً جدًّا دائمًا، / ولن أعودَ مرَّةً أُخرى!” كتبت النصّ شارلوت ورحلت بالفعل الكَمِدة، شاعرة العصر الفيكتوريّ، السّابحة في بحرٍ مُظلمٍ لا تنعكسُ عليهِ الأقمار في الرّابع والعشرين من مارس، سنة 1928 ولن تعودَ إطلاقًا. ما عادَ إلينا سوى صوتها الأبديّ، نسمعهُ في القصائد بوصفهِ مُناداةً لهروبٍ استشفائيٍّ، يتّخذهُ المهمومونَ المُطابقون لداخلِها المُمزّق العليل بإصرارٍ مثل ظامِئٍ تَحسَّسَ خَرِيرَ ماءٍ في الأرجاء.


ملحوظة: المقاطع الشِّعريّة بينَ علامات الاقتباس هي مُترجمةٌ عن الإنكليزيّةِ بتصرّفٍ منّي.