العمل من المنزل.. ما له وما عليه

بانوراما 2023/04/12
...

 جوردن ميتزل

 ترجمة: بهاء سلمان

مع مواصلة الشركات صراعها لايجاد التوازن الصحيح بين عمل الشخص عن بعد بمفرده وبين كفاح العاملين لأجل تحقيق الاستقلال، يركّز الجدل بشكل كبير حول عودة العمل المنفرد من خلال علاقته بالانتاجية؛ فاذا كان الموظفون منتجين بشكل متساوٍ وهم في مكان بعيد، فلماذا نطلب منهم العودة إلى أماكن العمل؟ جميع الأمور متساوية، والعمل عن بعد أرخص تكلفة وأكثر راحة من التنقّل بين المنزل والعمل.


 

ورغم أن الانتاجية تعد مهمة، فنحن لم نعطِ اعتبارا كافيا للتاثيرات الصحية السلبية المحتملة للعمل عن بعد لبعض الناس، فأولئك الذين يتمتعون برفاهية العمل من المنزل، ربما ينتهي بهم الأمر لإدراك أن العمل عن بعد سيكون مضرا لسلامتهم العقلية 

والبدنية.

وتوصّلت مجموعة حديثة من دراسات اعتمدت على الأدلة، وتحرّت عن التاثيرات العقلية والبدنية للعمل عن بعد إلى نتائج متفاوتة، فقد تحسّنت أحوال بعض العاملين في المحيط البعيد عن العمل، منوّهين لتوفر مزيد من الوقت لسلوكيات صحية، بضمنها التمارين الرياضية وتعزيز التواصل مع العائلة، بينما صار البعض الآخر خاملا، مكتسبين وزنا اضافيا، ذاكرين عن مشاعر بالعزلة 

والإحباط.

ويبدو أن الكثير من هذه الأمور مرتبطة بعلم الأحياء التطوّري، فرغم التغيرات المحيطة بنا، بقيت أجسامنا على نفس الشاكلة، حيث هيأتها الحالية موجودة منذ 300 ألف عام تقريبا. ويحتاج البشر للحركة، وتربط أدلة قوية بين الحركة المتزايدة وانخفاض الخطر من حالات تطوّر القلب والأوعية الدموية، مثل ارتفاع ضغط الدم وارتفاع الكوليسترول، والأمراض المزمنة مثل داء السكري وأنواع معيّنة من السرطان، علاوة على حالات الصحة العقلية، وبضمنها الكآبة والقلق النفسي.


علاقةٌ طرديَّة

كلما تحركنا أكثر، تحسّنت صحتنا، والتحرّك يوميا لا يجعلنا نشعر بتحسن وحسب، وإنما هو من ضمن الصيغ ذات الأثر الكبير في ما يخص الطب الوقائي. علاوة على ذلك، يرتبط قلة النشاط بشكل هائل مع المرض، فالجلوس لوقت طويل مع حركة أقل عبر اليوم بمقدوره جعل صحة الفرد أدنى مستوى. ويتأثر كل من متوسط العمر المتوقع والملف الصحي سلبيا 

بقلة النشاط الممتدة لفترات طويلة.

ورغم التقدّم الهائل للتقنيات، يحتاج جسم الإنسان بشكل اساسي لنفس القدر من الحركة والصحة الوقائية منذ أكثر من 100 ألف عام. لسوء الحظ، تعمل التقنيات والراحة غالبا ضد صحتنا، فمع أي انتصار تقني، من الحصان والعربة إلى السيارة والطائرة والحاسوب، وحاليا الهواتف الذكية، قلّت حركتنا. في عالم اليوم، بامكان الواحد منا طلب وجبات الطعام وعمل العلاقات، وحتى تأدية واجبات العمل بدون أن يسير خطوة واحدة. 

وتبيّن دراسات لهياكل عظمية مرتبطة بالعمر لأشخاص عاشوا قبل الثورة الصناعية، حينما كان الناس يسيرون ويتحرّكون بشكل أكبر، أن حالات إلتهاب المفاصل للركبة كانت أقل من زمننا 

الحالي.

وزادت السنوات الثلاث الأخيرة بشكل سريع من هذا التوجه، فالبيانات الخاصة بعدد الخطوات خلال فترة الجائحة تظهر انخفاضا في سلوك توليد الحرارة بالنشاط غير المرتبط بالتمارين الرياضية، وهي الخطوات اليومية لليوم العادي. هذه ليست خطوات رياضية، فهي عبارة عن خطوات لسير نحو وجبة الغداء، وإرتقاء السلالم في العمل والذهاب إلى المترو أو عبر موقف السيارات.

وبينما يتم التركيز كثيرا على التمارين الرياضية كوسيلة لتحاشي الشيخوخة والمرض، ترتبط سلوكيات توليد الحرارة بالنشاط غير المرتبط بالتمارين الرياضية أيضا بتجنّب الأمراض، وهذه السلوكيات تعد الوقود لعملية الأيض، رغم أن التمارين الرياضية تعد جزء من ملف الحركة الصحية.


فرق الحركة

حاليا، الكثير منا لا يؤدون هذا الأمر بما فيه الكفاية، وإذا أردت إثبات ذلك لنفسك، جد طريقة لقياس خطواتك، مثل استخدام تطبيقات صحية على هاتفك الذكي. وإذا كنت تعمل بين المنزل ومكان العمل، تفحّص خطواتك في أيام الذهاب إلى العمل، فهي على الأرجح أكثر بكثير من تلك الأيام التي تعمل فيها من المنزل، جالسا بالقرب من مصدر طعامك الرئيس: الثلاجة.

من الممكن أن يتحوّل الخمول إلى مرض. في الولايات المتحدة، يتم إنفاق نحو ثلاثة ترليونات ونصف ترليون دولار على الصحة العامة، وهي تمثل 18 بالمئة من الناتج القومي الاجمالي، ورغم كون هذا الإنفاق يعادل ضعفين تقريبا، بالمتوسط، لدول أخرى من ذوات الدخل المرتفع، فالأميركان يحلّون بالمرتبة الثانية لمتوسط العمر المتوقع ضمن الدول الغربية. كأمة، لا يعد الأميركان أصحاء بشكل خاص، وتبلغ تكاليف الحالتين الأغلى، أمراض الأوعية الدموية وداء السكري، أكثر من خمسمئة مليار دولار سنويا، متضمّنة مصاريف الرعاية الصحية والانتاجية المفقودة؛ وهو أمر يمكن تجنّبه بشكل كبير من خلال النظام الغذائي الصحي والحركة المنتظمة.  ينفق الأميركان الكثير، وأقل شيء يفعلونه هو الحركة، فقد وجدت دراسة حديثة أن العمل من المنزل في أميركا لا يزال يمثل النموذج السائد لما يقارب من خمسين بالمئة من القوى العاملة، لكنه أقل شيوعا في أوروبا وآسيا، حيث عاد من 75 إلى 80 بالمئة من العاملين إلى أماكن عملهم. ومع قلة حركتنا، سترتعفع تكاليف الرعاية الصحية المرتبطة بهذا الأمر.


مداراة العقل

الأمر المهم الآخر للعمل عن بعد هو الصحة العقلية، فالبشر يعدون من الكائنات الاجتماعية، والكثير من اساسياتنا البيولوجية للحركة تقع ضمن حاجتنا إلى التفاعل. ورغم التطوّر الحاصل في التقنيات، فعقولنا تنتعش مع العلاقات الشخصية، فحينما تكون العلاقة شخصية، نتعلّم قراءة لغة الجسد، وفهم فروق دقيقة غير مذكورة للتواصل والعمل بشكل اكثر كفاءة مع الآخرين. وقد أظهرت الدراسات مستويات مرتفعة من الاكتئاب والقلق النفسي أثناء العمل عن بعد؛ فحتى لو كانت أسهل، فهناك احساس بالعزلة يتنامى حينما يتم استبدال التواصل الشخصي الواقعي بالتفاعل الافتراضي. ووجدت دراسات تخطيط كهربية الدماغ إن التفاعل المباشر وجها لوجه ينتج عنه روابط سايكولوجية تدوم بشكل أقوى وأطول من الافتراضية. هذا لا يعني إن كل فرد يعمل من المنزل يواجه أزمة صحية، فالعديد من الناس تتحسن أحوالهم في عالم العمل عن بعد، فالآباء والأطفال يكون لديهم وقت أكثر ليقضوه مع العوائل؛ ومزيد من الوقت للبعض للتنزّه، وأحيانا ممارسة اللياقة البدنية.

فالعمل عن بعد موجود وسيبقى، حيث تظهر البيانات من السنوات الثلاث الماضية بوجود فوائد ومآزق من العمل من المنزل. وربما ستكون الوسيلة الايجابية الأفضل هي الجمع بين العمل المعتاد والعمل عن بعد، لضمان التواصل الاجتماعي والحركة اليومية. وإذا كان المرء يعمل عن بعد بشكل كامل، معدا لقاءات وأوقات محددة لإجراء التمارين، فسيبقى موضع مسؤولية وتواصل مع الآخرين. وإذا طلبت إدارة العمل العودة إلى العمل المعتاد بدوام جزئي على الأقل، فعلى الموظف إدراك أن هذا الأمر مرحب به لصحته على المدى الطويل.


صحيفة نيويورك تايمز الأميركية