الأساطير ومخاوف الفلسفة

ثقافة 2023/04/12
...

ترجمة: رامية منصور



تقوم بين الفلسفة و الأسطورة علاقة متشابكة ومتداخلة وتفاعل كبير وتواصل دائم لدرجة أن بعض الفلاسفة يرى أن التفكير الفلسفي هو ابن شرعي  للتفكير الأسطوري, حيث أن موضوعات  الأسطورة تعتبر أيضاً مادة خصبة للفلسفة.. فالأسطورة تقدّم سرداً قصصيًّاً مقدساً تبرز فيه تفسيراتها للظواهر الطبيعة كنشوء الكون أو خلق الإنسان ولكن بأسلوب تناول يختلف عن أسلوب الفلسفة فالأسطورة تعتمد على الخيال والأمور غير المألوفة فيما الفلسفة تعتمد على العقل والمنطق في تفسيراها وتحليلها للأمور, فالتفكير الأسطوري لاعقلاني بينما التفكير الفلسفي عقلاني.. كما أن  الفلسفة قد اكتشفت في الأسطورة البناء الوجودي والصورة الأصلية التي تعبِّر عن ارتباط الإنسان بالواقع و الحياة!
غالباً ما ترتبط المخاوف بشأن الأسطورة بمخاوف بشأن المعلومات المضلِّلة. لكن هذه المخاوف تتجاوز القلق من الأخطاء الواقعية التي تتطلب التصحيح. ويواجه الباحثون في هذا المجال إشكاليات في الكلام المثقل بالرمزيّة الذي يشد خيالنا لأماكن أخرى من الوعي. يتم استخدام لفظة الأسطورة مؤخراً للتحدُّث عن العقدة الحدودية في سياسة الهجرة الأميركية “أسطورة الجدار الحدودي” المعزّزة بنداءات الحنين إلى نسخة أكثر أصالة إلى حد ما من “الأمة” أي “أسطورة أميركا الحقيقية” وكذلك “أساطير اللغة الإنجليزية” التي ظهرت خلال حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

أحد الأسباب التي تجعلنا غير مرتاحين لذكر الأساطير هو أننا نتوقع ألا يكون لها مكان في قلب الافتراضات والمعتقدات التي أوجدت الثقافة الحديثة. أي أن هناك توقعاً بأننا، كمجتمع، قد تجاوزنا عهود الأساطير.. وينبع هذا التوقع من حساب تطوري للثقافة يعود على الأقل إلى اليونان القديمة، عندما تبنّى المفكرون ما قبل سقراط خطاباً يميز أساليبهم في الاعتماد على التقاليد الشفوية المرتبطة بالأساطير القديمة عن الآلهة الأولمبية، من خلال التركيز على الطبيعة التي لا يمكن التحقق من دور الآلهة في سردياتها. ثم أصبحت الأسطورة في القرن الثامن عشر في أوروبا، يُنظر إليها على أنها بقايا ثقافية تتعارض بشكل أساسي مع الحياة الحديثة. وبينما كان عصر التنوير يهاجم التقاليد والخرافات، حوّل مؤلفون مثل بيير بايل وبرنارد دي فونتنيل انتباههم صوب تراث الأساطير اليونانية الرومانية.

تم التعامل, في القرون السابقة، مع الأساطير الكلاسيكية من قبل هواة الباروك كجزء من التراث الخالد، وهي مفردات جمالية موروثة كان على الأفراد المتعلمين معرفتها لأجل أن يكونوا مشاركين فعّالين في الثقافة الراقية. وعلى النقيض من ذلك، كان نقّاد عصر التنوير حريصين على التشكيك في قيمة الأساطير التي اعتبرها أسلافهم جديرة بالتقدير في منحوتاتهم ولوحاتهم وأعمالهم الأوبرالية وحتى زخرفة السقوف. وقد وجّه مؤلفو عصر التنوير الأنظار إلى السمات السخيفة، والغريبة في كثير من الأحيان، للأساطير ذاتها.  قام بايل, بمتعة واضحة، بتفصيل حلقات الزنا وسفاح القربى وأكل لحوم البشر التي تناثرت في الأساطير الكلاسيكية، وسخر من المعلقين القدامى، الذين حاولوا تقديم تفسيرات مجازية عنها.. قال: “لا يمكن قراءتها من دون الشعور بالشفقة على هؤلاء الفلاسفة الذين استخدموا وقتهم بشكل سيء للغاية.” وتكهن فونتنيل, من جانبه، بأن الآلهة الأولمبية للرعد والبحار كانت مجرّد ما استحضره الإغريق القدماء في تخيّلاتهم من أجل شرح الظواهر الطبيعية التي كانوا يفتقرون إلى المعرفة العلمية اللازمة لفهمها.

“يمكن فهم مسار الفلسفة على أنه مسار يمتد من الأساطير  إلى  الشعارات “

كان هناك سبب آخر لإعادة تقييم مرحلة التنوير للأساطير الكلاسيكية. لقد أتاحت فرص السفر إلى آسيا وشمال إفريقيا والعالم الجديد المجال للجمهور الأوروبي ليعلم أن التقاليد الأسطورية هناك تتجاوز تلك الموجودة في اليونان القديمة وروما. عندما بدأ علماء “علم الأساطير المقارن” الأوائل في اكتشاف أوجه التشابه بين الأساطير الكلاسيكية وتلك التي في ثقافات الشرق التي اعتبرها العديد من الأوروبيين في ذلك الوقت “بربرية”، لكن الأساطير الأوروبية الكلاسيكية تلك فقدت الكثير من بريقها التقليدي, ذلك أنهم اكتشفوا أن أغلبها كان مجرّد صدى لأساطير وادي الرافدين وفارس ووادي النيل والهند.

ما ظهر من عمليات إعادة التقييم الثقافية هذه كان صيغة لتصور التقدم الحضاري في مسار خطّي يحثُّ على الابتعاد عن الأسطورة. كما أدرك الأوروبيون في القرن الثامن عشر ذلك، عندما قاموا باحتلال المجتمعات ذات الثقافات الأسطورية الغنية كتلك الموجودة في العصور اليونانية الرومانية القديمة، و مجتمعات السكان الأصليين في العالم الجديد وأماكن أخرى تعيش مرحلة “بدائية’’ من الثقافة. ونجح مجتمعهم المستنير, نتيجة للمقارنة, في التخلص من الأساطير والخرافات لصالح طرق تفكير أكثر صرامة.

كان التركيز على التطور المعرفي للعقل البشري جزءاً مهماً من هذا التقييم للتطور الثقافي. من المفترض أن المسار من البربرية إلى الحضارة ينطوي أيضاً على تحوُّل في طبيعة الفكر نفسه, من نوع العقلية الساذجة والخرافية التي يتطلَّبها إنتاج الأساطير والإيمان بها، إلى عقل التنوير القادر على النقد وتقييم الحجج.

كانت لهذا النموذج من التطور المعرفي تأثيرات دائمة في الهوية الذاتية للفلسفة. يمكن فهم مسار الفلسفة، لاستعارة صياغة من قبل الكلاسيكي “فيلهلم” في القرن العشرين ، من حيث المسار الذي يمتد “من  الأساطير  إلى  الشعارات “    وفقاً لوجهة النظر هذه، يواصل الفلاسفة جهودهم في الابتعاد عن الأسطورة، وتحديد أو تحييد تلك التي تظل فاعلة في تفكيرنا وثقافتنا، وإخضاعها لاستجواب نقدي، واستبدالها بالمعرفة التي تصمد أمام التدقيق النقدي.