هل يغيّر الخيالُ الأدبيُّ العالم؟

ثقافة 2023/04/12
...


 اليسون جيمس     


 ترجمة: د. فارس عزيز المدرس




 هل يستطيع الخيالُ الأدبي أنْ يغيرَ العالم؟ هذا السؤال يتمُّ التعامل معه غالباً بشكلٍ سطحي ومتناقض، سواء في مفاهيم عامة الناس عن الخيال، أو مِن لدن منظّري الخيال أنفسِهم.

من المفيدِ بدايةً الانتباهُ إلى أنّ التغيرَ المقصودَ هنا لا يعني التغيرَ الايجابيَّ فحسب؛ فالقضيةُ جدليّة؛ ويدخل ضمنها التغييرُ السلبي للخيال بعمومه؛ والخيالُ الأدبي على الخصوص. ولا يعني الموضوعُ التغييرَ الشامل الذي يجري بشكلٍ مباشر وبجرةِ قلم، وإنما الكلام عن أثرٍ تراكميّ يتعلّق بتكوين الثقافة والاتجاه.


إنّ مسألةَ التأثيراتِ التي يمكن أنْ تُحدِثها قراءةُ وعرضُ الأعمالِ الخيالية على الأفراد والمجتمع غالباً ما يتمّ التقليلُ مِن شأنها، أو تقديمها في ظروفٍ غيرِ مؤاتية. ومِن الخطأ الاعتقادُ بأنَّ الواقع يُشبِه الخيالَ؛ فهذا ما يعرّضنا للعديد مِن خيباتِ الأمل، لأننا غالباً نتصوّر الخيالَ بوصفه أملاً وخلاصاً مِن وطأة الواقعِ وجحيمِه. وعليه يُنظر إلى الفجوة بين الواقع والعالم المثالي على أنها حالةٌ لا يمكن تجاوزها وتنتج تأثيراً هزليا لا ينضب. 

وقبالة الداعمين لقوةِ الخيال في تغيير الواقع هناك معارضون يزعمون أنّ الخيالَ يجعلُ شخصية الأفراد تقومُ على العواطف والمشاعر فحسبُ. والتأثير الذي يُنسبُ إلى الخيال يُحرّض على الانفعال، سواءٌ كان ذلك بشكلِ إفسادٍ الأخلاقِ أو إصلاحها.

يركّز العديدُ مِن القصص الخيالية على العلاقاتِ بين الخيال والعالم، ويؤكّد على الفصل وعدم التوافق بينهما؛ وكثيراً ما يتمُّ تقديم الخيالِ على أنه مساحةٌ للإسقاط، أو الهروب من الواقع، أو التمنِّي. وبالقطع فإنَّ للأخيلة تأثيرَها الكبير والعميق، ولها خصوبةٌ ذهنية تفوق معاييرَ المنطق، وهي تشتغل تحت تأثير الحدْسِ أكثر مِن اشتغالِها على نسَق المنطق. 

والسؤال الأكثر جدوى: هل تقتصر التأثيراتُ السلبية للخيال الأدبي – مِن وجهةِ نظر مناهضي قدرة الخيال في التأثير الإيجابي - على إنتاج أفرادِ غير ملائمين للحياة في العالم الحقيقي؟. نفترض ذلك؛ لكن الأثرَ الأكبر هو أنَّ الخيالَ بالتأكيد يعمل على تعديلِ أو تعزيز معتقداتِ القراء، وإقناعهم بتبنِّي قضية ما، وحتى جعلهم يتخذون مواقف حاسمة. 

وفي الخيال الروائي مثلاً نجد الشهادات على هذه التأثيرات كثيرة، وما يثيره الخيالُ الروائي يسمح لنا بتتبُّع خرائط تأثيراته المفترضة؛ والتي تتطور وفقاً للوقت والنوع. وفي الواقع لا يوجد نقصٌ في الأمثلة التي تظهر تأثيرَ الخيالِ في الحياة والهويات والممارسات الاجتماعية. واليوم كما في الماضي هناك ألوفُ الرجال والنساء الذين استوْحوا  الكثيرَ من ثقافاتهم من الخيالِ الروائي والأفلام التي انطلقت مِن أخيلةِ تلك الروايات، وهذا يشكل مثالاً جيداً على التأثير الواسع للكون الخيالي، ونموذج انتشار الخيال الأدبي يمتدُّ عِبر العالم بأسره، ليجري استبدال العالم الحقيقي بمحاكاة تعويضية.

  وإذا تركنا الكتبَ المثيرة جانباً والتي تتباهى بمغازلة القارئ، وتقدم نماذجَ من خطاباتٍ تعبّر عن المشاعر فيمكن للرواياتِ التي هي مدارسُ مشاعر أنْ تمثلَ الحبَّ والمغامرة العظيمة وتقدم نماذج للفضائل السامية، وتحرّض على الشجاعة والنضوج الفكري والشعوري، وهذا على أيّ حال رأي بيير إيتان فورتين عضو مجلس الشيوخ الكندي الذي كتبَ في وصيته أنْ يقرأ أطفاله الروايات الخيالية. ومثلُ هذه النظرة المتعاطفة مع الخيال بعيدةٌ عن كونها قاعدةً حتمية لكنها واردة. 

ومنذ ظهور الرومانسية نجد أنَّ الخيالَ يؤثّر في الرأي العام بدرجة كافية في الحثِّ على إصلاحات مجتمعية، أو تشكيل أحداث سياسية كبرى. وفي الولايات المتحدة ظهر كتابٌ كان له الفضل على كلِّ المعجبين والمعارضين الذين تغيرت عقولُهم في فهم العالم، ونعني بها رواية كوخ العم توم، التي أشعلت الحرب الأهلية، وهو الكتاب الذي كُتب بهدفِ إلغاءِ الرق، وشكّل نقاشاتٍ سياسية حادةً ومباشرةً؛ من خلال تأثيره في الرأي العام. ولكن يمكن أنْ يُعزى التأثير الخطير للكتاب في جزء كبير منه إلى النداء المحدد للخيال؛ وقدرته على غمْر القراء بخلق التعاطف حتى مع الشخصيات التي لم يكونوا متعاطفين معها سياسياً. 

  وشهد القرنُ العشرون اهتماماً متزايدا بتأثيراتِ الروايةِ وتكثيفها في التأثير في الثقافة الجماهيرية، ومن المفترض أنّ تكون رواية (الوضع الحرج) Under Fire مِن أكثر الكتب مبيعاً في فرنسا؛ وقد أسهمت في صعود النزعة السلمية خلال الحرب العظمى. هذا المثال هو أكثر إثارةٍ للاهتمام، لأنّ باربوس لم يتصوّر في الأصل هذا العمل باعتباره الرواية التي ستصبح بفضل قابليتها العامة للتطويع بهذا القدْر مِن التأثير.

  بعد الحرب العالمية الثانية جعلت النظرياتُ الأدبية الروايةَ النوعَ المميز لكشفِ النقاب عن واقع العالم والبناء عليه، وهذه ليست مجرّد مسألةٍ واقعية اشتراكية، فبالنسبة لسارتر يُفهم أنّ الممارسة الحرة للكاتب لا يمكن فصلُها عن مناشدةٍ حرية القارئ التي تتجاوز العالم الحقيقي مِن أجل التغيير. 

أمّا المشهدُ الإعلامي فأدى إلى تغيرٍ سريع في أواخر القرن العشرين، إلى جانب ظهور أشكال رقمية جديدة مِن الخيال؛ أفضت إلى ظهورِ مخاوفَ بشأن العواقب النفسية للانغماس في البيئات الخيالية. واحتدمت النقاشات حول التأثيرات الفردية أو الاجتماعية للمسلسلات التلفزيونية وألعاب الفيديو، إذ أعادت الأخيرةُ على وجه الخصوص الفكرة الأفلاطونية القديمة لانتصار التقليد على الواقع.

  وفي القرن الحادي والعشرين أثارتْ رواية دان براون (شِفرة دافنتشي) قلقاً كبيراً للكنيسة الكاثوليكية، وكرد فعل تمّ إنتاج جهود بحثية لمواجهةِ فكرة أنّ يسوع كان متزوجاً مِن مريم المجدلية.

 إنَّ إحساسنا الحدسي بأنّ الخيال يوسّع قدرتنا على التعاطف تم اختباره علمياً؛ سعياً وراء الأدلة التجريبية للفوائد المعرفية والأخلاقية للخيال، وأكّد علماءُ النفس على تأثير الخيال في الإدراك الاجتماعي والمهارات المرتبطة بنظرية العقل. وبعبارةٍ أخرى قدرته على تمييز المشاعر والنوايا وغيرها. ومع ذلك فإن مثل هذه الادعاءات المتعلّقة بالفوائد المعرفية والأخلاقية للخيال لا تزال محِلَّ شكوكٍ من لدن مُعارضي قدرةِ الخيال على التغيير.

ويمكن التشكيكُ في قيمة الاستجابات الوجدانية للخيال من منظور آخر، إذ يطرح ماريو سلوجان احتمالَ أنْ تكون التأثيرات العاطفية للخيال إشكالية أخلاقية وسياسية. واليوم يتمّ وضع الأعمال الخيالية قيدَ المحاكمة، لاسيما التي تتعلق بألعاب الفيديو ذات الأصل القصصي؛ على افتراض أنَّها تشجع على العدوانية والعنف؛ وهذه الفكرة مقبولةٌ على نطاقٍ واسع، وتدعمها بعضُ الأدلة، حتى لو ظلت الدراساتُ التجريبية غير حاسمة.

ومِن جهة أخرى يجري إلقاء اللومَ على الخيال السينمائي في عدد من الجرائم، نظراً لأن الجناةَ يتذرّعون أحياناً بأشكال التقليد؛ فقد ادعى القاتلُ المتسلسل الأمريكي جويل ريفكين أنه استوحى جرائمه من هيتشكوك. 

ويمكن القول: إن هذه المناقشات ازدادت حدةً في العقدين الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين، وكان آخرَها تأثيرُ حركةِ العدالة الاجتماعية التي ترى أنّ أحدَ المخاوف الشائعة هو أنَّ القصصَ الخياليةَ قد تنشر سلوكيات ضارة، وتنال مِن المعايير التي تتعلّق بالعرق أو الجنس.

  وعلى أي حال فإن الهجماتِ على الأدب الخيالي، التي تنتمي إلى تقليد طويل؛ حتى أثناء تعاملها مع السياقاتِ الاجتماعية المتغيرة تستند بوضوح إلى الافتراضات الشكوكية نفسها، وبالتالي فهي مشوبةٌ بالتناقض، لأنها لا تقوى على استيعاب الأثر التراكمي لتأثير الخيال، ولا تعوّل على الخصوبة فيها التي تتجاوز الكثير مِن محددات المنطق وتفتح أفاقاً لا حدود لها.

 وبالانتقال إلى أوروبا القرن التاسع عشر تدرس شارلوت كراوس الدور المتناقض للمسرح في بناء الهويات الوطنية: فمن ناحيةٍ يطور الكتابُ المسرحيون نزعة ملحمية في الأعمال المعقدة التي تبين أنها غير قابلة للتنفيذ، ومن ناحية أخرى تتيح إعادةُ التفسير المرحلي لهذه الأعمال تأثيراً اجتماعياً حقيقياً. بينما تستكشف آن إيزابيل الارتباطات النسوية بالأعمال الخيالية، وتُظهر على وجه الخصوص كيف ألهمَ العالمُ البائس لـ(مارغريت أتوود) في حكايةِ الخادمة The Handmaid’s Tale أنماطاً جديدةً من العمل الإيجابي؛ عبر مسالك الخيال الروائي. وبالمحصلة فالقصصُ الخيالية مثل لعبةِ العروش، أو سلسلة هاري بوتر مناسبةٌ بشكلٍ خاص لأشكال الاستيلاء الأخلاقي والسياسي. 

ومع ذلك فإنَّ قياس الطرق التي يشكّل الخيالُ من خلالها فهمنَا للعالم مسألةٌ أخرى، وتحتاج إلى الكثير مِن التدقيق والسعة؛ فضلاً عن إظهار كيفية اشتغال تأثير الرواية نفسِها في هذه المشكلة. ويمكن القولُ بأنَّ الرواية شكلّت المواقف، أو أثارت ردودَ أفعالٍ تمَّ حشدها مِن أجل غايات مختلفة، وكل ذلك يعني أنَّ خصوصيةَ الخيال وقوته يحدّدهما الاختلافُ الذي يقدمانه تجاه الأنظمة الحياتية السارية، وقدرتهما على تحويلِ عالم الواقع أو تبديله.