بعد خمسة عقودٍ من وفاته كيف تحل مشكلة مثل بيكاسو؟

ثقافة 2023/04/12
...

سامويل رايلي

ترجمة: مي اسماعيل 



في العام 1981 درست ناقدة الفن الأميركية “روزاليند كراوس” ظاهرة سمتها: “السيرة الذاتية لبيكاسو”، ولم يتعلق البحث بالفنان ذاته من منظورها؛ بل النسخة التي صنعها المؤرخون من بيكاسو؛ وهم أشخاصٌ كان عليهم التأني في الحديث عن.. “التقلبات والانعطافات في حياة الرسام العبقري الخاصة”. وهو ما تسميه كراوس الحالات “الفظة” لتعاقب الزوجات والعشيقات؛ مما قد يحدد الأسباب الكامنة وراء التحولات الأسلوبية العديدة خلال مسيرته الفنية الطويلة والمتلونة. كان ذلك مجرد ثرثرة جرى تقديمها تحت غطاء تاريخ الفن، وشخوصها مدانون بتهمة محاولة كشف “آخر قصاصات المعلومات الشخصية” المحجوبة.
هذا العام، في الذكرى الخمسين لوفاته؛ عاد اسم بيكاسو للتداول أكثر مما مضى. وستقام نحو خمسين معرضاً لأعماله تحت رعاية وزارات الثقافة في اسبانيا وفرنسا؛ تحت شعار “الاحتفال ببيكاسو، 1973 - 2023”، عبر أوروبا وأميركا. تغطي المعارض أعماله التكعيبية والمنحوتات وتفاعله مع فنانين آخرين، ودراسة مراحل فنه المتعددة. ولكنْ إذا بقي بيكاسو “أسير السيرة الذاتية” طليقاً اليوم؛ فمن الصحيح أيضاً أنه مقتطعٌ نوعاً ما من شخصية مجروحة. وإذا كانت تلك “الجوانب الفظة” من شخصيته تعدُّ يوماً ظروفاً ضرورية لعبقريته؛ فإنَّ جمهور القرن الحادي والعشرين ليسوا متأكدين من هذا الوصف.

صناديق مليئة بالرسائل

في كتابها “بيكاسو، المايناطور - 2017” رسمت صوفي تشوفو (الكاتبة والصحفية والمخرجة الفرنسية) صورة للفنان على أنها “غول” “يلتهم أحباءه” و”فايروس لوّث” كل فنان في القرن العشرين. هناك مفارقة معينة هنا؛ وهي أنَّ المنتقصين من بيكاسو، وعبر الخوض في علم النفس، كانوا يحذون حذوه إلى حدٍ ما؛ على الأقل في تقدير كراوس. احتفظ بيكاسو بصناديق مليئة بالرسائل والمذكرات؛ معتزماً أنْ “يترك أكبر قدرٍ ممكنٍ من الوثائق للأجيال القادمة”؛ كي تتمكن تلك الأجيال من فهم مسيرة أفكاره. قال بيكاسو يوماً: “لا يكفي أنْ تعرف أعمالَ فنانٍ ما؛ بل يجب أيضاً أنْ تعرفَ متى أنتجها، ولماذا وكيف، وتحت أي ظروف”. لكنْ بالنسبة للبعض؛ فإنَّ معرفة من كان بيكاسو أصبحت الآن حجة لعدم معرفة أعماله على الإطلاق.

رداً على ذلك تقول “سيسيل ديبري” مديرة متحف بيكاسو بباريس: “علينا الترحيب بالجدلية في المتحف”. أُعيد ترتيب ديكور المتحف استعداداً لمعرض بيكاسو القادم (بعنوان - احتفالية بيكاسو: المجموعة في ضوء جديد)؛ وأُلصقت صفحات من مجلات الموضة القديمة على الجدران. ستُعرض أيضاً أعمالٌ لفنانين معاصرين كوسيلة تأمل للمشاهدين؛ ليس فقط في تراث بيكاسو العالمي، بل للنظر في الأسئلة الصعبة المتعلقة بتصويره للمرأة واستعاراته من تقاليد الفن الأفريقي. تمضي ديبري قائلة: “حتى في متحف مخصص لفنان توفي قبل خمسين سنة؛ من المهم الحفاظ على رابط مع الفنانين الأحياء”.

الوصول الى حميميَّة الإبداع

كان بيكاسو يكتنز فنه بالفعل؛ إذ تضمنت قائمة الجرد التي أعدها مسؤول المزاد “موريس ريمس” بعد وفاة بيكاسو أكثر من 70 ألف عمل فني. باع بيكاسو (على مضض) بعض الأعمال للمتاحف؛ لكنه كان يفضل الاحتفاظ بها كنقاطٍ مرجعية حتى يتمكن من مراقبة تقدمه. وقادته النزعة ذاتها ليكون موثِّقاً مهووساً بملفه الشخصي العام، وفي عصرٍ سبق غوغل بمراحل؛ اشترك في وقتٍ مبكرٍ من العام 1917 بخدمة “Lit-tout” الصحفية، والتي كانت ترسل له كل مقالة نُشرت عنه طوال حياته الطويلة.

بعد وفاته اتفقت “جاكلين روك” (زوجته الأخيرة) وأولاده الأربعة مع وزير الثقافة الفرنسي حينها “ميشيل غاي” لإقامة متحفٍ مخصصٍ لفنه، وجرى تشكيل لجنة لاستخراج مجموعة أعمالٍ من المخزون الواسع. بعد ثلاث سنوات جرى اختيار نحو 203 لوحات و158 منحوتة وبضعة آلاف من قطع ضمت المطبوعات والرسومات والسيراميك والكتب. أضيفت لها عام 1998 نحو 400 قطعة من مقتنيات “دورا مار”؛ شريكته العاطفية، ثم مئة أخرى من مقتنيات المصور الفوتوغرافي المجري “براساي” عام 2011. تقول ديبري: “جرى إنشاء المجموعة بطريقة متفردة، في وقتٍ فريد”.. إنها متماسكة للغاية؛ تم تجميعها لتُشكِل رحلة”. ولكن إذا كانت مجموعة تشكلت (نوعاً ما) بمنظور القائمين على تنظيم المعارض؛ فلم يكن بإمكانها إلا أنْ تأخذ دلالاتها من بيكاسو نفسه. ترى ديبري انه..” لم يحاول تنظيم خلافته بصورة إدارية؛ لكنه حافظ عامداً على الأعمال الأكثر قرباً لنفسه؛ أعمال ارتبطت بتاريخه؛ كاختفاء صديق ما، على سبيل المثال. أبقاها لنفسه ليراقب الى أين يمضي. وهذا يتيح للمتحف الوصول الى حميمية الإبداع وفهم كيف كان بيكاسو يعمل”.

مراثٍ للأصدقاء

تعترف ديبري بعدم وجود..” روائع كبيرة جداً وفريدة جداً في المجموعة”؛ رغم أنَّ بعض المتاحف نجحت في انتزاع قطعٍ مثل لوحة “جورنيكا” (1937) و”آنسات افينيون” (1907) من عهدة الفنان. بدلاً من ذلك يحتوي “متحف بيكاسو” على وفرة من الأعمال الانتقاليَّة؛ اللوحات أو المنحوتات التي تمثل ذروة مرحلة أو بداية مرحلة تالية.. مثل لوحة “الفتاة الحافية - 1895” العاطفية الرصينة؛ التي تُظهر أنه أتقن إلى حدٍ كبيرٍ المذهب الطبيعي للفن التقليدي الإسباني قبل أنْ يبلغ 14 عاماً. وهناك لوحته الشخصية الذاتية الرائعة (1901)؛ كلحنٍ مرتجلٍ باللون الأزرق يبدو فيه وجه الرسام الشاب هزيلاً وكبير السن بما يفوق سنوات شبابه. وإذ يعدُّ كثيرون تلك اللوحة كمرثية لــ”كارلوس كاساجيماس”؛ صديق بيكاسو المقرب من كاتالونيا؛ الذي أنهى حياته بعد علاقة حب فاشلة؛ لكنها إعلانٌ مؤكدٌ لبدايات الفترة الزرقاء لبيكاسو، والتي ستطبع سنواته الثلاث المقبلة.

لا تشكو متاحف أخرى شحاً في روائع مرحلة ذروة التكعيبية - التحليلية (بحدود سنة 1912)؛ ومنها- مركز “بومبيدو” للفنون. لكنْ لا مكان أفضل من “متحف بيكاسو” لفهم تطور الحركة بصرياً؛ ولا عمل واحداً أفضل في هذا الصدد من “القلب الأقدس- Sacré-Coeur”؛ وهي لوحة زيتية تحمل طابع التخطيط، انتهى منها بيكاسو في شتاء عام 1909 - 1910.. توجد تلك اللوحة في نقطة المنتصف بين التزام بيكاسو مع الراحل “سيزان” (تحليل نصب “مونتمارتر” الى “كرة ومخروط واسطوانة”) وبين التجزئة الأكثر شمولية للمنظور التي ستلي لاحقاً. باختصار.. يمتلك المتحف ثروة “محرجة” من روائع بيكاسو؛ لكن كيفيَّة عرضها تبقى موضوعاً شائكاً. اختير مبنى “Hôtel Salé” (المنزل المتميز من القرن السابع عشر) بباريس موقعاً للمتحف؛ لأنه أحدث توازناً بين الفخامة المعمارية وألفة المقاييس. خضع المبنى للصيانة عام 2014؛ ومنذ ذلك الحين خط سير العرض زمنياً، مرتباً عبر ثلاثة طوابق.

فنٌ عابرٌ للشخصيَّة

عند تتبع ملامح الحياة من خلال الفن، يلتزم المتحف (إلى حدٍ ما) أنْ يكون نوعاً من السيرة الذاتيَّة؛ يعرض الرسائل والمذكرات وغيرها من مصادر الأرشيف (يمتلك المتحف نحو مئتي ألفٍ منها) التي حُشِدَت لتعطي منظوراً حميماً للمعروضات. لكنَّ ديبري تلفت النظر الى أنَّ المتحف أكثر من ذلك بكثير.. لأنَّه يسمح بالتقدير الكامل لـ..”عمق ورقة المرونة الفكرية لبيكاسو” من جانب. وإذا نظرنا إليها بالمفهوم الصحيح؛ غنى المصادر الارشيفية التي تفتح منظوراً أوسع لدور بيكاسو في حياة القرن العشرين.

عند الخوض في مراسلاته مع الصحفية والشاعرة الأميركية “جيرترود شتاين” أو النحات والرسام السويسري “جياكوميتي”، يمكن للمرء أنْ يستعيد إحساساً بكيفية تشكيل الأفكار ومشاركتها مع فنانين طليعيين. هذان العاملان؛ الأسلوب الفني والسياق الاجتماعي؛ هما ما دعتهما كراوس: “العابران للشخصية”؛ أدوات لمواجهة آثار جمود السيرة الذاتية في تاريخ الفن. ولعلَّ الأمر الأكثر إثارة للإعجاب في فترة رئاسة ديبري لهذا المتحف الفريد هو كيف أنَّها جلبت ثقل السيرة الذاتية للمجموعة الفنية التي تولت مسؤولية رعايتها لتستند على “الفن العابر للشخصية”؛ والعكس صحيح.

ترى ديبري أنَّ “المستقبل يدور حول تعلم كيف نتبنى تراث بيكاسو في القرن الحادي والعشرين.. وكيف ننظر إليه؛ أهو شخصٌ كارهٌ للنساء ولا يتصرف بشكلٍ مناسبٍ وفق معاييرنا الحالية، أم ننبذه فقط دون تفسير؟” البرنامج الذي وضعته للمتحف بدأ بالتحريض أنَّ الإجابة تكمن في المقام الأول بالاعتراف بوجود العديد من الإجابات، ووجوب الاستماع إليها جميعاً بأكبر قدرٍ ممكنٍ من الانتباه.


- مجلة “أبوللو”، عدد آذار 2023