الفلسفة بعيون المتلقّي العام

ثقافة 2023/04/12
...

حازم رعد 



عادةً ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها من ناحية “الشكل والمضمون طبعاً” بعيدةٌ عن الواقع وغير مكترثة له ولا تعتني بما يجري فيه، إذ إنها متعالية على التاريخ وعلى الراهن الذي تجيء فيه وأنَّ الفيلسوف أو ذاك المتخصّص في الفلسفة منعزل اجتماعيّاً وكائن انطوائي حبيس أفكاره وتصوراته وفي منأى عن الفضاء الذي يعيش فيه وهكذا يكون بتعبير بول نيزان “أخف من الملائكة” بمعنى أنه غير مؤثر في واقعه، لا تثقله الهموم ولا المعاناة ولا تلفت اهتمامه المشكلات التي تعصف بذاك الواقع، ولعلَّ من جملة الإشكاليات التي وجِّهت لفلسفة الملا صدرا الشيرازي والتي أسماها بالحكمة المتعالية هو هذه المفردة الأخيرة المضافة “المتعالية” فطابع المعرفة وأساساتها التي شُيّدت عليها مبانيها قائمة على التواضع فكيف توصف بعدياً بالمتعالية.؟
إذن فالفلسفة بعين المتلقي العام يرافقها شعور بالنفور فلم تكن علاقة إيجابيَّة فنجد أنه كلما تردَّد ذكرها سبق إلى فاهمته التعقيد والتكلف وكلام لا معنى له يزيد في وجع الرأس، فهي كما يصفها جورج بوليتزير (كلمة لا توحي بالثقة قط لأول وهلة عند كثير من الكادحين لأنهم لا يعتبرون الفيلسوف شخصاً يقف بقدميه على الأرض ولو أنك دعوت أناساً حسني النيَّة ليتفلسفوا فإنهم يظنونك تدعوهم إلى حضور عمليَّة مشي على الحبل تدور بعدها رؤوسهم… هكذا تبدو الفلسفة في أغلب الأحوال تلاعباً بالأفكار لا يرتبط بالواقع. 

وهذا التصور السلبي إزاء الفلسفة أعزوه بحسب فهمي لمجموعة أسباب منها ما هو متعلق بشخص المتفلسف وكذلك لأسباب متعلقة بالمادة الفلسفيَّة ولا نستبعد جانب التقصير عند المجتمع فهذه مجموعة أسباب كلها تؤدي إلى تلك النتيجة وتفيد في النظر إلى كون الفلسفة بعيدةً عن واقعها ولا تهتم لمسائله.

ففي معرض الحديث عن تلك الأسباب التي يقف على رأسها ما بالإمكان تسميته “السبب الشخصي” فهو يتعلق بشخصيَّة المتفلسف فعادةً هناك فهم خاطئ يحمله من يهتمون بالمجال الفلسفي والمعرفي والتخصصات العلميَّة عموماً وأخص بالذكر منهم الأكاديميين الذين ينظرون للواقع على أنه لا يلائمهم لنقص الوعي الاجتماعي وعدم توفر جميع أفراد المجتمع على الإدراك اللازم الذي يمكنهم من فهم أولئك “ النخبة” الدارسين طبعاً، وأنَّ وعي الناس شعبي عادةً ما يكون متخلفاً ولا يرقى لأن يداني ميدان الفلسفة والمهتمين أو المتخصصين بها ولم يقتصر الأمر عند بعضهم على مستوى رسوخ هذا الفهم في الفاهمة وإنما أشاعوه في الوسطين، النخب والعامة مما عزل الطبقتين عن بعض وأسهم في التباعد بينهما وأدى ذلك إلى إبعاد الفلسفة عن الواقع وعن الاهتمام بالشؤون العامة وقضايا المجتمع وأشاع حالة من التذمر العامي إزاء الفلسفة، إذ تشير كل التقديرات الاجتماعيَّة إلى أنَّ تعميم نمط من التعامل بفوقيَّة وترفع مع طبقات المجتمع مؤداها التذمر من تلك الطبقة المترفعة وبالتالي عدم تقبل كل ما يصدر عنها حتى لو كان جوهر الحقيقة، إذ تميل الناس دائماً لمن يقترب منهم ويتفهم مشاعرهم ويراعي اهتماماتهم وينظر في مشكلات الواقع الذي هم فيه ويكون جزءاً من الحل لا ذاك الذي لا يجد نفسه جزءاً من ذلك الواقع بل يظن ذاته بمنأى عن الآخرين ولا يرتبطون به بصلة فمن المؤكد أنَّ الناس سوف تجابه ذلك بالإعراض عنه والتذمر وهذا ما وقعت به الفلسفة على المستوى الشخصي للمتخصصين بمجال الفلسفة.

أما السبب الآخر وهو المادة الفلسفيَّة وهي حصيلة تاريخ الأفكار الفلسفيَّة وممارسة النقد والتجديد وبلورة الأفكار التي تواكب الراهن وهذه المادة هي بالأصل محل اهتمام الفلسفة وما تقدمه للواقع على شكل أفكار وتطلعات واهتمامات فإن كانت طبيعتها لا تعتني بالواقع أو هي بعيدة ومترفعة عنه، ولا تبحث اهتماماته ومشكلاته فإنها ستكون محل ازدراء بل عدم تقبل فما للناس والانسجام مع قوالب فكريَّة ونظريات لا تعتني بمشكلاتهم واهتماماتهم، إذ ساد جوّ في الفلسفة يكون البحث فيه منصباً على قضاياً اللغة والوجود والأفكار المجردة والاهتمام بصناعة المفاهيم المعقدة التي لا يفهمها الناس فكان ذلك سبباً آخر لابتعاد الناس عن الفلسفة والنظر إليها على أنها دراسات غريبة عن الواقع ولا تمت له بصلة فكان ذلك حائلاً بينها وبين قبول الناس لها. 

وأما عن الثالث من الأسباب وهو المتعلق بالمجتمع ذاته فهو أيضاً سبب أساسي ومحوري في تشكيل نمط غير محمود للفلسفة بدون أي مقدمات أو حتى أدنى معرفة بماهيَّة هذا اللون من التفكير فالمفروض أنَّ النتائج تقف على مقدمات وهذا ما يؤكده المنطق السليم ولكن نجد العكس هو السائد وأنَّ ابتعاد الناس أنفسهم عن الاهتمام بالفكر الأصيل والعميق والاقتصار على طرق ساذجة للتفكير والتمسك بأفكار هامشيَّة دون أي دراية أو مسوغات مقبولة أنتج هذا التذمر تجاه الفلسفة، وبالتالي بحسب إمام عبد الفتاح فإنَّ التفكير في هذه الحالة لا فائدة منه وربما جرّ علينا الضيق والكدر والغم.

وعليه فالمجتمع يتحمل عبئاً كبيراً حال تعرض إلى ألوان مختلفة من التجهيل وتسطيح الوعي وغسيل الأدمغة وإن تفعل فيه شبكات وقوى التضليل فعلها لصرف انتباهه وإغفاله عن كثير من عمليات الاحتيال التي تحاك ضده أو حلقات من التشويه الفكري التي تعمل عليه وذلك بسبب أنه ترك الاهتمام بالفلسفة التي هي أساساً تفكير ناقد وفكر يقظ لا يروض بسهولة ولا يجاري المألوف والسائد ولا يخضع للتنميط دون دراية ومعرفة ولا يسلم بأي فكرة دون فحص ومراجعة، وهذا الابتعاد عن الفلسفة حال دون نشوء ونمو وعي عال بالواقع وفهم للحياة كنتيجة حتميَّة، ذلك فالمجتمع يتحمل جزءاً كبيراً في هذه الإشكاليَّة ومسؤوليته العودة إلى الاهتمام بالفلسفة والتفكير النقدي وإعمال العقل بجديَّة في الأشياء حتى يتمكن من مجاراة الواقع وفهمه وبالتالي ممارسته بالطرق الصحيحة وفق مقدمات سليمة.

كما أنَّ المنهج التجريبي “بوصفه عاملاً آخر يضاف إلى مجموع العوامل التي أدت للابتعاد عن الفلسفة” يقف كمقابل نوعي للمنهج العقلي الفلسفي وله دور محوري في سلبيَّة النظر إلى الفلسفة، إذ يجد الذين يتبنون هذا المنهج أنَّ الحقيقة واليقين محصوران في خصوص هذا المنهج ولا سبيل آخر لبلوغ الحقيقة أو للوقوف على اليقين ونظراً لارتباط هذا المنهج في الجانب المادي من حياة الإنسان وهو البعد الأكثر تأثيراً في شخصيَّة الفرد والمجتمع كان ذلك عاملاً في إشاعة جو سلبي يحيط بالفلسفة كونها لا تنتج إفادة على المستويات الماديَّة في حياة البشر وذلك ما زاد النظر بسوداويَّة ونفور إزاء الفلسفة.