الوثن ومخاتلة العلو

ثقافة 2023/04/13
...

 جينا سلطان

  تقترن كلمة وثن بالثبات والإقامة على العهد، فإذا استوثن المرء في متاهات نرجسيته المتشظيَّة، تمزّق بين حدي العنف وتعظيم الذات، وغدا بطلا بألف وجه في أسطورته الشخصيَّة. بالمقابل، تستدعي مغامرة الإبحار في جحيم النفس الغارقة في الكراهية بوصلة الوثن الذي يتمظهر في رواية «الغرانيق» (1)  بتمثال حجري يجسد القوة والترهيب، وفي الوقت نفسه يندس في أحلام المهمشين، فيتخلق بأشكال مخاتلة تحفظ توازنهم الداخلي. وبينما تمنح الغرانيق للمؤلف أرضية خصبة للهروب من مواجهة النفس، تكثف زخم العنف في الأفئدة المشوشة، وتستوثن الثائرين الذين يسقطون المجسمات الحجريَّة.

   ينسل بطل «الغرانيق» بمهارة من عباءة «كافكا» ومسوخه، ويتجاوز الرجل الهزأة لـ»دستويفسكي» كي يخاتل نفسه في متاهات الجنون العبثيَّة. فيؤجل مواجهة ذاته المتشظية، تحت وطأة الشبق المفرط، الذي يغرقه في الانحرافات الجنسية، المُستعادة من مجون الشخصيات التاريخية، ويجبل منها شخصية الظل التي يدعوها «الجنرال ـ الزعيم». ومن هذه الشخصية تتناسل وجوه البطل، ويعلو بواسطة غرانيقه فوق سُدم الواقع المعادل لعدمية «كامي»، فيلتف «عرفة» حول مأزق مجتمع أغرقه الفساد بأطياف العنف والضياع والإرهاب المتأسلم. 

      من البداية إلى النهاية نتابع صيرورة انفصامية مأزومة، تسبغ على النص ضبابية مريعة، لكنها في الوقت نفسه تمنحه القيمة الفنية والفكرية. وتمثل هذه الضبابية نقطة قوة لكونها تعمم سيكولوجية البطل على مسارب متعددة، وتجعله يعوم فوق مستنقع الكراهية، لتقذف به نحو متاهات الذات المتخمة بالفراغ الروحي العقيم. 

      تتوزع الرواية على ثلاثة غرانيق؛ القوة وتجسدها شخصية «الجنرال ـ الزعيم»، والانكماش والتضاؤل بفعل الشبق العارم، وتمثلها شخصية «رجل الشرفة» المثقف، وأخيرا «التطهر» وتعكسه شخصية الشاب الجسور، لتعنون الأوجه الثلاثة تضخم «الأنا» تحت ذريعة الواقع المحكوم بالتهميش والاستلاب. بالمقابل، تنقسم الشخصية الأنثوية إلى ثلاثة اتجاهات، الزوجة السمينة المتماهية بعاهرة بيت المتعة، والفتاة العذراء ذات الستة عشرة ربيعاً «آلاء»، والمؤهلة بفعل براءتها للتحول إلى أيقونة «المرأة ـ الحلم»، قبل أن تتلبسّها الغواية، لتغدو الوجه الآخر لـ»ماريلا»؛ العشيقة الأجنبيّة التي يُسقط البطل المأزوم كل خيالاته المنحرفة على عاتقها.  

      يطور «عرفة» منذ روايته الأولى «وصايا الغبار» مزيجاً تقنياً من أحلام اليقظة والحوار الداخلي، الذي يعيد إخراجه مراراً وتكراراً للاقتراب من ماهية الإنسان المعاصر المُستلب والممزّق بفعل تضخم النزعة الاستهلاكية. فتمتلئ نصوصه بالفوضى والارتجالات العشوائيّة المتأتية عن صخب الأفكار المتضاربة، فيسقط في فخ الإسهاب أثناء سرد الوقائع المتجذرة في صميم الحياة اليوميّة. ولأنَّ تلك الفوضى صادرة عن ذهن متفرّد، تنقسم الرواية إلى أربعة أقسام تشكل كل منها إسفاراً عن غليان الأعماق الداخلية، وتعكس توقاً عارماً للاستواء فوق عرش الذات المتخمة بالغرائز البدائية المرتبطة بشهوة القتل، والتي يهجس البطل لتفريغها دموياً عبر الفعل الجنسي المتوّج بالاغتصاب، فيستلب نفس الضحية قبل بدنها.   

      تتمظهر في القسم الأول مساحة كئيبة ممتدة بين بؤس الواقع والأحلام المجهضة، ضمن شواش ذهني يفرخ مشاعر متناقضة، تنوس بين اللامبالاة والرفض الشديد للواقع، فتغرق البطل في العدائية. ثم يستدعي فقدان السيطرة على النفس ظهور ومضات غريبة من ذاكرة منسية يعزوها المؤلف إلى حياة أخرى في عوالم موازية غير مرئية، تدل عليها حكة جلدية، تشبه علامات التقمص التي يلاحظها هوندا، في رباعية يوكيو ميشيما، على صديقه كيواكي، عبر تقمصاته الأربعة، فيستدل عبرها على ذاته المتناسخة.

      يُظهر «عرفة» شخصية «الجنرال ـ الزعيم» كنقيض لشخصية المواطن الأنموذجي، فيتماهى البطل بها طوراً، ويتنازع معها أطواراً، في تناوب لثنائية الحب والكراهية. ويتخذ هذا التمازج بين الشخصيتين طريقه عبر مرآة قديمة مشروخة عند مخرج البيت، حيث يبصر وجهه ممزقاً باهتاً، يتوزع عند الحركة إلى عدة وجوه متراكبة، فيعتلي متن النص الروائي بطلاً بلا اسم وبلا ملامح معينة. 

      ينعكس أحد الأوجه المهمة لـ»الغرانيق» في الانفصال العاطفي والنفسي الحاد بين البطل وزوجته، إذ يختلق كل منهما لنفسه شريكاً ملائماً يقتسم معه رغباته المبهمة، ضماناً لاستمرار الحياة الزوجية. فتنفعل الزوجة كلياً مع الرجل القوي، بينما يستغرق الزوج في أحلامه مع الفتاة الأجنبية «ماريلا»، لتختلط أدواره في هذيان جنوني مثير للاشمئزاز. إذ تتقيأ مخيلته المريضة صوراً دموية، تحت إملاءات الحقد الشديد. وفي الوقت نفسه، يستقطب الفراغ المادي فيه كوابيس مروعة تتلبس بأنين قتلى ينبعث من مقبرة جماعية منسية، فيواظب على زيارتها لسماع حكايا الضحايا فيما تهرب زوجته مع عشيقها، فيستنسخ الجنرال الزعيم في إهاب شاب وسيم في العشرينيات، تهيم بحبه الصبية «آلاء».

      يندمج القسم الثاني مع شذرات من السيرة الذاتية للمؤلف، والتي تختزلها «السادية» بنمطها السياسي والجنسي، بوصفها شكلاً تفريغياً ملائماً لكل أنواع العنف المتراكم في النفس. فيعتبر البطل محاولاته البعيدة نسبياً ليصبح «زعيماً ـ جنرالاً»، رغم إخفاقاتها، جديرة بالحديث عنها، فقد جسدت حالة فردية وفي الوقت نفسه حلم يقظة جماعي. وتدرجت تلك المحاولات من تقمص الصورة الرومانسية للبطل المخلص في الكتب، لتقترب تدريجياً من مفهوم التماهي بـ «زعيم العصابة»، الذي رصدته أفلام القراصنة والكاوبوي الهوليودية، ليصطبغ القتل وإلغاء الآخر بالدموية أكثر فأكثر. 

      تتكاثف تلك التفاصيل الصغيرة في القسم الثالث، وتتوالى معها أقنعة البطل، لتتلبس هيئة حنين مبهم إلى زمن عشق وكرامة يحاول «عرفة» استيلاده بالكلمات، فتغدو نوستالوجيا الحنين شرارة تشعل الحاضر بالتمرد على شظف الواقع. فيطل وجه «رجل الشرفة» ويتحدث بضمير «الأنا» في توليفة تجمع بين الهذيان الليلي في إهاب شخصية «الجنرال ـ الزعيم»، من جهة، والموظف الخمسيني الحالم باستنساخ ذاته كشاب عشريني يقطن غرفة طينية واسعة قديمة، تقع في أحد الأحياء القديمة من البلدة، من جهة أخرى. 

   ينعكس تعايش البطل مع الانفصام بين الماضي والحاضر في تعددية الأنا واتساعها، والتي تحول الغرفة الطينية وحديقتها إلى قصر سحري خارج عن حكايات الجدات، وتنصبه ملكاً على أسرار الأحلام. مما يؤطر عودة إلى براءة طفولية مفقودة، تشكل ردّاً على التوحّش الكامن في ظلمات النفس، والذي ترمز إليه شخصية «الجنرال ـ الزعيم». ومن ثم، تختزل هذه الشخصية إجهاض بذرة الإنسانية في الطفولة، التي ابتدأت بالأب المتجبر، مروراً بالعسكري المتحرش، وصولاً إلى القريب المغتصب، ليتكامل مسار الصيرورة المنتكهة عند رمزية التمثال الحجري المطبق على الأنفاس برهبته. 

      في الغرفة الطينية القديمة يستحضر «عرفة» حكاية خيَّال من زمن بعيد، غذى بفروسيته المثالية حكايات الحالمين، حتى صادر العسكر حصانه عندما رفض الامتثال للمحظورات العسكرية، فتحول إلى أستاذ لأمجاد التاريخ نهاراً، وسائقاً لسيارة أجرة ظهراً. وبعد عقود من تحول البلدة على يد الانتهازي أبو عصام إلى بيت دعارة كبير، يصرخ هذا المدرس فجأة داعياً الشباب إلى تحطيم الأوهام، فيندفعون إلى الشارع هاتفين «خبز، كرامة، حرية»، قبل أن يحول رجل بملابس فلكلورية هتافاتهم إلى شعارات مسيسة. بينما يراقب «رجل الشرفة» المثقف الوضع من شرفته، وكأنه يتابع كرنفالاً أو فيلماً سينمائياً، غارقاً في التردد بين اتخاذ موقف واضح أو الاستكانة للقبول، فترجح كفة غريزة حب البقاء والخوف من فقدان الوظيفة الحكومية.

      تبلغ الرواية ذروتها الوحشية بمشهد يضم «ماريلا» وشخصية «الجنرال ـ الزعيم» في احتفال مجون عنيف، قبل أن تستبدلها عقلية البطل المنحرفة بابنة البلدة «آلاء»، استجابة لشهوة ذكرٍ لم يفهم من الشرق إلا عنف الجنس. بالمقابل، يعترف «رجل الشرفة» المثقف في القسم الرابع بهلوسة الجنون المتراكبة في داخله، والذي يفرز ازدواجية في التعامل مع الحياة. فينعكس الغرق في تقليب الأفكار، هرباً من مواجهة الذات، انفعالاً وثوراناً عند الشعور بالهزيمة، ويستتبع تفكيراً مرضياً مهوساً بـ «آلاء» ومحاولة إيقاعها في شباكه عبر مصيدة الكتب. 

   وعبر دفع «آلاء» المثقف نحو مواجهة مستنقع العنف الدموي داخله، يمهد «عرفة» لاعتلاء البطل المتأسلم منصة الأحداث الغارقة في لجة الهذيان. فيشعلها أمير الحرب، الذي يظهر في نهاية الرواية، بمزيد من التكهنات والتفسيرات حول ضراوة العنف المنفلت من عقاله. وفي الوقت نفسه، يتسلل العنف المتراكم ورغبة الانتقام الجارفة، ليغدو وسيلة تفريغ مثلى تشحن الآخرين بالعدائية. وبذلك، يتصل مبتدأ الأوثان بمنتهاها في دائرة الأحداث وسببيتها، لتعلو قيم وتخبو أخرى، في مسارات لا تتوقف عند فرديَّة، أو تصور ذهني عابر لدوامة الوجود اللانهائيَّة. 

الهامش:

1 -  “مازن عرفة” (1955 ـ)، روائي سوري صدرت روايته الغرانيق عن دار هاشيت عام 2017، وصدرت “وصايا الغبار” عن دار التكوين عام 2011.