شعريَّة وواقعيَّة الأداء والصورة.. وبلاغة الاختزال الدرامي
أ.د. حسين علي هارف
العشرة.. تجربة درامية تلفزيونية جديدة ومتفردة في شكلها ومعالجاتها الدرامية والاخراجية لموضوعات إنسانية توزعت على حلقات منفصلة لكنها متصلة ومتناغمة من حيث المزاج الدرامي العام وأسلوب الأداء التمثيلي والنزوع الإنساني (الشعري) والحرث في الدواخل والمشاعر الإنسانية من دون تكلف ومبالغات ومن دون ثرثرة لفظيَّة أو حركيَّة أو حتى إيمائيَّة.
فالاختزال والتكثيف الدرامي لسيناريو كل حلقة اقترح مبدئياً أو الزَمَ بالضرورة اعتماد التكثيف الصوري كوسيلة تعبير فني من قِبل الاخراج الذي الزَم بدوره وسيلته الادائية (الممثلين) بأداء صوتي وحركي بالغ الاختزال، حتى أن هذا الاختزال طال تعابير الوجه وإشارات اليدين وإيماءات الرأس لدى كل من الاء حسين وخليل فاضل.
كما أن التحديد والاقتصاد الفني العالي في لغة الاخراج (ذات المنحى السينمائي) استوجب إقصاء التفاصيل غير الضرورية دونما تردد.
لقد نجح طاقم العمل (من غرفة الكتابة حتى فريق الاخراج) في تطبيق قانون الاختزال المطعّم بلحظات الصمت المشحونة والمحتدمة حتى جعل زمن بعض الحلقات يتراوح بين 12 - 15 دقيقة، وهذه مهمة صعبة وتنطوي على مغامرة نجح فيها فريق العمل في تقديم حالات انسانية في مواقف درامية غاية في الاختزال والتكثيف وفي إطار صوري ثري في إنتاج المعنى وصنع الدلالة. فالسخاء الدرامي والانقياد إلى ثراء الخيال السردي أو الدرامي قد يُلحق أحيانا وربما غالبا في محصلة التأثير والتأثر النهائية بين العرض ومتلقيه، وربما كان قصر الحلقات زمنيا جزء من قوتها الدرامية وقوة تأثيرها فنيّاً عبر التخلص من كل مساحات الترهل والاطالة المملة مع المحافظة على ضرورة تحقيق الاشباع الدرامي والفني.
لقد اعتمد المخرج علي حديد في كوادره لغةً هي اقرب الى اللغة السينمائية من حيث حجوم اللقطات وزوايا التصوير مع ميله إلى بعض سمات الواقعية الايطالية التي كانت تسعى إلى تصوير معاناة الفقراء والطبقات الاجتماعية المسحوقة والمهملة من خلال اعتماد مواقع تصوير خارجية ومفتوحة غالباً بما يقترب من أجواء السينما الوثائقية ذات الطابع التسجيلي بعيدا عن الاستوديو ومواقع التصوير المصنّعة وعن المؤثرات الصوتية والموسيقية المبالغ فيها.
وإذا كانت الواقعية الايطالية الجديدة التي سعى المخرج إلى محاكاتها قد تأثرت بالواقعية الفرنسية السوداء التي كانت تهدف إلى عكس الواقع كما هو داخل الاطار الاجتماعي القادر على تمثيل الحرب وذروتها، فإن غرفة الكتابة قد جنحت إلى بعض ملامح الواقعيَّة السحريَّة التي مزجت بين سوداوية الواقع الاجتماعي وسحريَّة الخيال والفانتازيا (علاقة التواصل مع الشهيد الحي – الميت)، حواريا واستحضاره فديويا عبر الموبايل من قبل الزوجة لتختلط الأوهام والتصورات والتخيلات الغريبة بسياق السرد الدرامي الذي ظل محتفظا بنبرة حيادية موضوعية كتلك التي تميز التقرير الواقعي ذي الطابع الوثائقي .
إنَّ اللجوء إلى أسلوب وتقنية الواقعية السحرية منحت غرفة الكتابة الخلق والابداع وللمتلقي الاثارة والتشويق والدهشة من خلال الجنوح نحو طابع الغموض والضبابية والسحر وشعرية الموقف والاداء المعززة بشعرية الصورة التي بدت وكأن كل واحدة منها (تعبيرية).
ورغم هذا الجنوح فإن هذا غرفة الكتابة نجحت في عدم إشعارنا أن هناك خطأ ما، وشيء لا يمكن تصديقه أو قبوله أو التعاطف معه، فبدا لنا ما هو متخيل ووهم كأنه جزء من الواقع المأساوي المغرق بسوداويته والذي نجح المخرج وطاقمه بتلوينه بألوان أخرى غير السواد.. ألوان شفيفة مدهشة منحت الحزن لذة استمتاع جماليَّة وليست مازوشيَّة، ولا سيما في مشاهد عذابات ومعاناة الزوجة والاخت وباقي الادوار التي لعبتها الاء حسين، إذ لم يحاول هذا العمل استدرار عواطفنا واستجداء دموعنا بطريقة ميلودرامية فجة، بل سعى إلى محاكاة جوانب من ذكرياتنا المأساوية التي القتها سلسلة الحروب وآخرها حربنا ضد الارهاب "الداعشي" والنظر إليها (الذكريات) بروح التسامي وبعين الاحترام وبمشاعر الاسف! فالحرب بكل تداعياتها ومآسيها وما تخلفه من جروح في الارواح تُظهر مكامن قوتنا الإنسانية وعظمة أرواحنا المتسامية وصلابة اراداتنا الحرة الملتصقة بالوطن والأرض وبقيمنا الاخلاقية التي صمدت رغم محاولات التي سعت نحو تدمير النفوس بعد أن انتهت من تدمير المباني، كما يرد على لسان بطلة إحدى الحلقات، فالحرب المؤلمة هي تلك التي تدور في البيوت وداخل النفوس الموجوعة العظيمة للأمهات الثكالى وللزوجات الارامل والحبيبات المفجوعات. ورغم البطء الظاهري للإيقاع فإن العمل قد امتلك ايقاعا داخليا محتدما ومشحونا حققه الأداء التمثيلي المكتنز بالأحاسيس والتعبيرية وعززه المونتاج الصوري وتقنية الـ (فيد إن) بالانتقال المشهدي، الى جانب اختزال حواري عبر لغة مقتصدة اعتمدت القدر الشحيح من الكلمات والجمل القصيرة التي تخللتها لحظات صمت مشحونة شكلت لغة درامية موازية تضافرت مع اللغة الحوارية ليتشكل من كل ذلك إيقاع داخلي أسهم الممثلون في ضبطه والتحكّم به.
لقد تناغم أداء الممثلين الرئيسين (المحوريين) الاء حسين وخليل فاضل وببراعة مع الأسلوب الإخراجي واللغة الفنية للعمل من خلال أسلوب أدائي بالغ الهدوء لكنه صاخب المشاعر المحتدمة.. فكانا رسولين أمينين لصاحب الرسالة، بل كانا قائدين ميدانيين أمينين في تنفيذ الخطة الإخراجية الحريصة على تقديم ما هو مؤثر وصادق في خطاب فني إنساني بعيدا عن التكلّف والتصنّع والمبالغات.
خليل فاضل قدّم شخصية الجندي (المتطوع) و(الملبّي) لنداء الوطن والواجب رغم مصاعبه الحياتية، بكل صدق وباسترخاء يُحسد عليه بوصفه وريثا وامتدادا للممثل الذي ضرب مثلا في الاسترخاء في المسرح والتلفزيون (الراحل فاضل خليل).
خليل قدّم حالة (الشهيد) وهو يعيش حالة من الصفاء والتجلي.. الاء حسين أجادت استخدام أدواتها الاحترافية وصهرها في بوتقة (التلقائية المحببة) استخدمت وجهها وعضلاته باقتصاد وتحكم من دون ان تتخلى عن التعبير عن دواخل الشخصيات التي جسدتها وحالاتها الشعورية عبر (نظرات) معبرة نجحت الكاميرا في التقاطها بكل دقة. وعلى عكس ما دأبت عليه معظم الممثلات في الدراما التلفزيونية لم تكن الاء حسين حريصة على إظهار نفسها بكامل زينتها واناقتها وجمالها (كأنثى) وإنحازت الى طبيعة الشخصيات التي مثلتها وإلى ما يفرضه عليها الظرف المكاني وبيئة الحرب بكل اضطرابها وفوضاها، فلم تظهر بما لا يليق بالمكان او الزمان او الموقف المأساوي للشخصيات التي تنوعت في ابعادها واتجاهاتها (أخت/ زوجة/ حبيبة/ طبيبة/ إعلامية.. الخ).
لقد منحت الاء حسين هذه الشخصيات دفقاً إنسانياً عالياً وأحاسيس صادقة ومعبرة تكشف عن جوهر المرأة العراقية و معدنها الأصيل في مختلف المواقف والحالات وفي ظل أصعب الظروف وأقساها.
لقد انطوى هذا العمل الدرامي المميز والمؤثر على شيء من التعبيرية التي تعنى بخوالج النفس البشرية في إطار من الواقعية (السحرية) و(الشعرية).
ورغم تصنيف العمل بوصفه (دراما تلفزيونية) فإنَّ اللغة السينمائية كانت حاضرة معززة بخطاب جمالي توجته سينوغرافيا ذات طابع مسرحي تماهى من خلال الضوء مع اللون لتحقيق منظومة جمالية تضافرت فيها تلك الاستعارات الفنية وحقق عملا متناغما أمتع حواسنا حدّ النشوة.
ولقد أبدع المخرج علي حديد ومدير التصوير عمار جمال في رسم نهاية الحلقات.. أقول في رسم.. لا في وضع.. لأنهما رسما نهايات شاعرية منسابة نهايات مفتوحة تركت مساحة لذائقتنا ولأخيلتنا أن تتصور وتحلّق وتسهم في استكمال المشهد.. تحقق ذلك في حلقات عديدة أهمها حلقة (الجندي المُقعد والشابة المُقعدة) إلى جانب الحلقتين الأولى (حلقة المحطة) والثانية (حلقة أخت الشهيد) فضلا عن الحلقة الأخيرة التي كانت أقرب إلى المشهد المسرحي المُصاغ والمرسوم بعناية سينوغرافية .
وعلى مستوى الخطاب الفكري للعمل فقد نأى فريق الكتابة بنفسه عن فخ المباشرة والهتافية وعن الأدلجة لصالح الخطاب الإنساني والخطاب الوطني الصادق وهو يقدّم صورة الجندي المقاتل الذي يلبّي نداء الوطن الذي تعرّض لتهديد انتهاك حرمة أراضيه وشعبه، فلا سبيل سوى حمل السلاح بروح وطنيَّة صادقة بعيداً عن أي نعرات أخرى لا تمت الى جوهر الوطنيَّة الخالصة بصلة.
مسلسل العشرة (بفتح العين) بتوثيقه لعشرة نماذج من (العِشرة) الوطنية والانسانية بماركتها العراقيَّة، وقد تجمعت فيها خبرات الاداء التلفزيوني والاذاعي والمسرحي والسينمائي في تجانس فني انتج لنا عملاً ممتعاً ومؤثراً سيشكل انتقالة نوعية في الدراما العراقية.
تحية إلى مجموعة العمل الشبابيَّة التي كانت وراء هذا العمل وإلى الجهة المنتجة التي خلقت مناخاً صحيَّاً لهؤلاء المبدعين من دون وصاية أو إملاءات ووفرت لهم سبل النجاح والابداع فاستحقوا جميعا الإشادة والتصفيق.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة