شبابٌ لا يقرؤون يرغبون بطباعة مؤلفاتهم

ثقافة 2023/04/16
...

 البصرة: صفاء ذياب

لم يكن نشر كتاب في العقود السابقة، عراقياً وعربياً، بالأمر السهل، بل كان لكل دار لجنة خاصة لفحص النصوص، فنياً وفكرياً، وإذا كانت الأمور في العراق قد تغيّرت، وأصبح فحص الكتاب فنياً فحسب بعد العام 2003، فلكل كاتب حرّيته في التعبير عما يراه من أفكار- ما عدا الأفكار التي تدعو للعنف وإلغاء الآخر بالتأكيد- فإنه خلال السنوات القليلة الماضية، أصبح الشرط الفني من الهوامش في طباعة الكتاب، إذ يمكن لكل مؤلف، مهما كان ما كتبه، طباعة كتابه ما دام أنه يستطيع دفع تكاليف الطباعة لدار النشر.

ربّما كانت هذه بدايات انتهاك حرمة التأليف، لاسيّما أن مواقع التواصل الاجتماعي تمكّنت من جعل أي أحدٍ يكتب منشوراً سطحياً ومليئاً بالأخطاء الإملائيَّة أو النحويَّة أو حتى في طرائق طرح الأفكار مؤلفاً. وما دام هناك ناشرون لا يجيدون حتى القراءة، كل ما عليهم أنهم يأخذون مخطوط المؤلف ويرسلونه إلى المصمم وبعد ذلك إلى المطبعة، مقابل مبالغ يدفعها المؤلف للناشر…. فعلى من يقع ما وصل إليه الكتاب العراقي؟ هل الناشر؟ أو المؤلف؟ أو غياب الرقابة- الفنية في أقل تقدير-؟.

الغريب أنه في السنوات الأخيرة، هناك أشخاص يذهبون لدور النشر ويسألون عن طرائق طباعة كتاب سيؤلفه وهو لم يقرأ كتاباً واحداً في حياته، بل إنه شاهد اصدقاء له في الواقع أو في وسائل التواصل الاجتماعي، وأراد أن يكون كاتباً مثل الآخرين…


أحلام يقظة

بحسب رأي الشاعر خالد شاطي، فسبب هذا النوع من التقمص يكمن في تأثر الشاب بالصورة الساذجة والمبالغ فيها التي قدمتها السينما الرديئة والأدب الهابط، لحياة الكاتب المنقضية بين تهافت المعجبين ومطاردة وكالات الصحافة ودور النشر والندوات، والمؤتمرات، والتكريمات، والجوائز.. إلخ.

ويحضرني في هذا السياق؛ الشخصية البغدادية الشعبية التي ذكرها (علي الوردي)، فقد كان صاحب تلك الشخصية يرى نفسه أحد أشقياء بغداد في حين أنه أبعد ما يكون عن ذلك. وكان يقصد مراكز الشرطة ليستفسر عما إذا كان اسمه ذُكر في المشاجرة الأخيرة.

إنَّ أحلام اليقظة أمر لا بأس به، وربما تدفع بالفرد إلى تحقيق آماله. إما أن يتصرف الفرد وكأن حلم يقظته متحقق ويتصرف على هذا الأساس فهذا مؤشر على وجود خلل عقلي لا شك فيه.وأظن أن مثل هذه الشخصيات قليلة جداً- لكن القليل منها كثير خاصة على أصحاب دور النشر- وينبغي التعامل معهم بحذر، فلعلم النفس في هذه الظاهرة قسط وافر ولا بدَّ من الاستماع لما يقوله بشأنها.


ورق اللاجدوى

الدكتور صباح التميمي يكشف أنَّ الخطاب الرقمي، وبلاغة الجمهور الإلكتروني المجانية، أتاحت للشباب ما لم يكن متاحاً للأجيال التي سبقتهم، وقد أدّى هذا التحوّل إلى صناعة جيل رقمي يسميه بـ (جيل الريلز)– وهذا كما هو معروف مقطع مدته خمس عشرة ثانية– جيل تشكّل من السرعة وفي السرعة وهو– من ثمّ– ابن هذه السرعة، وصارت الحياة بالنسبة له عبارة عن (ومضة رقمية)، ومع ما تنطوي عليه حياة الشاب– نفسيّاً– من اندفاع، وحب ظهور، وتسابق على الشهرة، ومع الأبواب المجانية المُشرَعَة للنشر، راح هؤلاء الشباب– الذين فهموا الحياة افتراضيّا للأسف– يُقنعون أنفسهم، بأنّ الكتابة طقس بسيط، لا يتطلّب كل هذه الضجة المفتعلة، ولا وصايا الحُكماء، هي عندهم – ببساطة- تغريدات وخواطر باردة، يلقيها المرء كيفما اتفق، وبتشجيع من أدباء النفاق الثقافي، وأدباء الصدفة، وتصفيقهم الحار، واحتيال دور النشر التجارية عليهم، وإغوائهم، بالتلويح لهم بالشهرة، كُبرَت فكرة (أريد أن أصبح كاتباً مشهوراً) في رؤوسهم! مستسهلين الحواجز الثقافية، ليصلوا بطرق ملتوية إلى حلمهم الخاوي، فيُتخم المشهد بأكداس من ورق اللاجدوى!

 

احراز الشهرة

يرى الكاتب والمترجم الدكتور هادي رزاق الخزرجي أن جيل ما بعد 2003 قد وقع في مرحلة محلية ذات تعقيد اجتماعي وفكري كبير، فصار أكثر هشاشة، وأقل تدبراً في ما حوله من صراعات، وتحديات. وفي خضم هذه الدوامة المستمرة، يبدو أن (السرعة) هي المبدأ الحاكم والطاغي على ما سواه من المسارات: التسرع في التفكير، والتسرع في نشر الآراء، والأقوال، والسرعة في الدراسة وتحصيل الشهادات، واختصار المواد العلمية... هذا كله يدفع نسبة من الشريحة الشبابية الصاعدة لإحراز ما يمكن إحرازه من الشهرة، ذلك عبر التأليف، وطباعة الكتب، والتجريب السريع، والمغامرة بالنشر ولو على حساب جودة المنتج، ولو على حساب التأني والتمكن من الأسس العلمية على أصولها. إن سهولة النشر والإعلان والترويج الشخصي على وسائل التواصل، وتوفر الأموال، وضعف الرقابة من خلال مسار النشر والنقد، والتأثر السريع بمجريات العالم من حولنا... ذلك كله دفع ويدفع هذه الشريحة إلى الكتابة، والنشر، والتجريب بشكل مستمر وفوضوي أحياناً؛ فيخيل إلينا أحياناً أن الجميع قادر على الكتابة، وأن الجميع قادر على الطباعة والنشر!


تنوع جديد

وبحسب الشاعر الدكتور مازن المعموري فالأمر يبدو مألوفا بشكل يومي تقريباً، والكثير من الشباب يودون نشر كتب، أو رواية، أو قصة بوليسية، أو خواطر، كما هو حال أية تجربة محدثة في بداية الطريق.ويعتقد المعموري جازماً أننا نعيش عصر الرأسمالية الحر بلا قواعد أو موانع أمام إرادة الفرد، وهو ما قدمته منظومة السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي بتنوعاتها كلها التي رسخت روح الإرادة والحسم وتطبيق الأحلام وتمثيلها اجتماعياً، فالمراهق أو المحب للتعبير عن نفسه لا يحتاج إلى وصاية أحد، ومن ثم لم تعد وسائل ومنظمات العالم القديم مثل اتحاد الادباء ووزارة الثقافة وأنظمة الرقابة الفكرية القديمة ذات جدوى فعلياً، فهي عوامل نكوص وإحباط للمبدع، ومن حق أي شخص التعبير عن نفسه بالطريقة التي يريدها، وهذا هو جوهر العصر الرأسمالي العراقي، لا حدود للشهرة (الطشة) بأية طريقة.هذا الواقع يعني أننا مقبلون على مرحلة متقدمة ستكون فيها دور النشر هي العامل الحاسم في ظهور أسماء وضمور أسماء وتعدد الآداب والفنون بلا حد، كما يحدث في أي مكان من العالم، وهو ما سيفرض على دور النشر إيجاد محررين بارعين، قادرين على اكتشاف عباقرة جدد خارج منظومة الأحزاب والعقائد والأيديولوجيات القديمة.

ويعتقد المعموري أننا مقبلون على مرحلة احتراف دور النشر في تقديم ثقافة جديدة قائمة على أساس محررين عباقرة، وهذا ما حدث مع كتاب كبار مثل (إرنست هيمنجواي، وسكوت فيتزجيرالد)، وكان المحرر العبقري ماكس بيركنز، هو سيد الموقف في ظهور أسماء خالدة في عالم الأدب.

قد يعتقد البعض المبالغة في هذا الكلام، لكننا نؤمن أنَّ الجيل الجديد من الأدباء والكتاب في العراق قادرون على تأسيس خطوة جديدة إذا ما وجدت دور نشر متكاملة تستوعب حجم التنوع الكبير في وسائل التعبير الادبي بشكل عام.

 

ظنُّ الكتابة

يشير الناقد الدكتور جبّار ماجد البهادلي أنّه من المؤكّد أنّ الكتابة مخاض إنتاجي إبداعي عسير المنال، وليس احترافاً أو صُنعةً تُوهبُ أو تُعطى لمن يروم ركوب هرمها الإنتاجي الفنّي الأكبر. فمن لا يمتلك الموهبة الفذة و (المَلكَةُ الفطريّة) والاستعداد الذاتي الثقافي والمعرفي الابستمولوجي المُكتسب لمْ ولن يرتقي صعود جبالها الشاهقة، وسيبقى مُتهيباً هائماً أبداً بين طيات الحُفر، وسيظل هاجسها حُلُماً غير ممكن التحقيق.

هذه هي اشتراطات من يكون كاتباً حقيقياً وإلّا فلا. أمّا من يسعى ظنيّاً أن يكون كاتباً ولم يقرأ كتاباً معرفياً واحداً في حياته، فمن الواضح المَعيب والمُخزي أنّ تأثيرات الثورة الرقمية على وعي الشباب سلباً لا إيجاباً، وكثرة وسائل التواصل الإعلامي المتعدّدة، فضلاً عن تعدّد وتيسر دور النشر ووسائل الطباعة (التجارية) المُتاحة غير الرصينة، واستسهال ظاهرة عملية الكتابة بالنيابة عن الآخر الخفي، والانتحال والتزوير المادي، وغياب الرقيب الثقافي المؤسساتي الصارم، وغياب قانون العقاب، والبحث عن عوامل الشُّهرة، أو ما يُسمٍى بـ (الطشة) في العامية العراقية. كلُّها عوامل مجتمعة، كانت الأسباب الحقيقية، والمهماز اللا أخلاقي لاختراق هيبة فن الكتابة والكتاب الإنتاجي وتحطيم جدار الكاتب الاعتباري النسقي الإبداعي المألوف. ولم تقف هذه الظاهرة الواثبة عند هذا الحدّ المفضوح، بل امتدت حُمى آثارها المرضية إلى المؤسسات الجامعية العليا، وأصبحت أُساً للفساد في كتابة الرسائل والأطاريح الجامعية.


حيازة المعرفة

ويبين الكاتب الدكتور أحمد المشتت أنّه في السابق وبغياب أدوات التواصل الاجتماعي كانت القراءة إحدى المتع الأساسية في حياة الشباب، متذكراً أنه كان يقضي العطلة الصيفية بقراءة مؤلفات دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وغائب طعمة فرمان (وكنا نتبارى نحن الشباب من يقرأ أكثر وكنا ندخر من مصروفنا اليومي الشحيح لنشتري الكتب) الآن بسبب الوجود الطاغي لأدوات التواصل الاجتماعي فإن الشباب يعرفون كل شيء عن كل شيء، يشعرون أنهم يمتلكون معلومات بسيطة عن أشياء كثيرة فهم لا يحتاجون إلى المعرفة الصعبة والتي تتطلب اجتهاداً كبيراً. فالكل يريد أن يصبح خبيراً، الكل يريد أن يصبح مختصاً والكل يريد أن يشتهر وينشر.والكتابة هي إحدى هذه الأدوات ناسين الأسس الحقيقية للكتابة وهي التجربة وحيازة المعرفة بالقراءة المستمرة والتحليل المستمر.


تفكير آنيٌّ

وتوضح الكاتبة آشتي كمال أن الأسباب قد تكون كثيرة ولا يمكن تلخيصها، إلا أنه بشكل عام كل فرد يتأثر بمعطيات عصره زمانيًا ومكانيًا، التأليف بغض النظر عن مضمونه وجودته، يمنح صاحبه تأشيرة مرور إلى عالم (المثقفين)، هذا العالم الذي ينظر له نظرة مثالية عالية، فالرغبة بالوصول إلى هذه المنزلة بصورته الحالية من أهم الأسباب التي تخلق في نفس الشاب العراقي فكرة تأليف كتاب، حتى وإن لم يكن قارئًا منظمًا أو شخصًا كفوءاً، ومن جهة أخرى لا يمكن تجاهل عوارض (التأثر والتأثير والتقلد والتقليد) بين الشباب، فضلاً عن دور النشر التجارية ووسائل الترويج المباشر، وقد يشارك المثقفون والكتّاب في هذه الظاهرة وذلك بإحياء أماسٍ وندوات ودورات تحت شعارات (تعلم معنا أسس الكتابة، كيف تكتب قصيدة/ قصة/ رواية ناجحة،...إلخ)، وهذه الجلسات سواء كانت حضورية أو إلكترونية ترفع دافعية التأليف من دون مراعاتها فروق المستويات الفردية للمشاركين. ولا يمكننا أن نتجاهل اخفاق النقّاد في إتمام رسالتهم الأدبيّة، وطغت فيهم سمة المجاملة على المهنيّة، إذ استسهلت مهمة التأليف والكتابة.

بحسب متابعتي لما يجري في الشارع الثقافي العراقي لاحظتُ أن أغلب الشباب ممن يقومون أو يسهمون بهذه المشاريع تفكيرهم (آني) أي هو (حاليًا) يريد أن يكون كاتبًا، لكن الكتابة صفة ثابتة بحاجة إلى تفكير بعيد المدى، لا بدَّ من معرفة ما هو موجود وما الذي يمكنه إضافته هو قبل وبعد كل شيء وذلك يتحقق بالمتابعة والمواظبة على القراءة والمواصلة والصبر، لتقديم ما يليق باسمه في الوقت الحاضر

والمستقبل.