شفيق المهدي في الزمن الوجودي والزمن الدرامي

ثقافة 2023/04/16
...

 عادل الصويري

في كتابه (زمن سارتر دراسة في الزمن الوجودي)، يشير الراحل شفيق المهدي إلى أن فعالية الكتابات الدرامية لبعض كتاب الدراما، سبب مهم لبقائهم في الذاكرة، ومنهم يوريبدس واسخيلوس وشكسبير، وصولا إلى ستراندبرغ وتشيخوف، مؤكداً «أن الاحترام الكبير الذي تلقاه هذه الأسماء ليُؤكد أن الإنسانية إنما تلقي باحترامها هذا لما يمارسه المسرح من فعالية اجتماعية لا مناص من استمرارها وتجددها».

ويرى أنَّ المسرح قد تجاوز بالفعل فنوناً مهمة مثل النحت والشعر، كما أنَّ بعض الفعاليات كالتلفزيون والسينما، لم تستطع تعطيل قدرة العرض المسرحي، وفعاليته المدهشة.

إنَّ التاريخ الإنساني يؤكد أنَّ التحولات الحضارية، والمنعطفات الكبرى؛ كان للمسرح فيها أثر كبير، بوصفه ضرورةً لكل حضارة، تريد إثبات وجودها، وأنه يعمل على تقديم تعريف جديد للمأساة، بعد تجسيدها على خشبة المسرح، وبذلك تكون أكبر من الفهم السائد لها بوصفها «تثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير» كما أشار أرسطو.

ولأنَّ الزمن وعاء أساسي لعناصر العرض المسرحي الذي تتشكل به وتتفاعل؛ يستغرب المهدي إهمال كبار منظري المسرح مثل ألكسندر دين، وبرشت، و كروتوفسكي، لمفهوم الزمن، بينما يؤكد أن الزمن يفرض نفسه باتجاهين اثنين:

زمن الفعالية المسرحية (العرض)، وزمن المتفرج (المشاهدة)، معتقداً أنهما مستقلان متداخلان في ذات الوقت. وأنَّ أكثر شيء حفزه على بحث الزمن واستقلاليته؛ هو «خلو الميدان المسرحي من هذا الاتجاه»؛ لكون الزمن يتنوع في أزمنة مختلفة، فهناك الزمن الفلسفي، والزمن الأسطوري، والزمن العلمي، والزمن الشعري، والزمن الفيزياوي، والزمن النفسي. وكل هذه الأزمنة تأخذ استقلاليتها، من خصوصيتها العلمية.

وفي خصوصية المسرح؛ يلعب الزمن اللامرئي لعبته مع عناصر الزمن المرئي كالألوان والممثلين والديكور؛ وبهذا تتم المعادلة التي يعتبرها شفيق المهدي زمناً خاصاً يميز المسرح عن بقية الفنون.

ولذلك اختار البحث في المفهوم الدرامي للزمن، عند جون بول سارتر؛ لأنه يتفق أصلاً مع المفهوم الفلسفي الذي تبناه في فلسفته الوجودية، التي بثها عبر الرواية والبحث والمسرح، حيث نقل الوجودية من شرنقتها التنظيرية الفلسفية، إلى الوجدان والحس الجماهيري، وأصبحت مؤثرة فيه؛ بفعل الأعمال الأدبية والمسرحية، أكثر من تأثيرها بواسطة الكتابات التي أخذت المنحى الفلسفي.

أما الإجراءات الفعلية للبحث، فقد طبقها شفيق المهدي، عبر تحليل محتوى المؤلفات المسرحية للفلسفة الوجودية، وتطورها منذ منتصف القرن التاسع عشر، على يد كيركيغارد، ثم التطورات اللاحقة على يد مارتن هيدغر، وجون بول سارتر، من خلال مسرحيات سارتر: الذباب وجلسة سرية وموتى بلا قبور، حيث قسم الزمن فيها إلى زمن الشخصيات، وزمن الآلهة، وزمن الكائنات غير العاقلة، وزمن الأماكن، قائلاً: «إنَّ سارتر اعتمد على زعم الكلاسيكية الحديثة في وحدة الزمان والمكان والموضوع» غير أنَّ معالجاته جاءت من منطلق فلسفي وجودي، وليس من المنطق الذي تحدده الكلاسيكية.

وقد كانت المأساة العاملَ المشترك في الثلاث مسرحيات التي كتبها سارتر، منطلقاً من ثيمة صراع الذات مع الآخر، فتارة تأتي المأساة عبر الندم، وقد شخّص شفيق المهدي الندم في مسرحية (الذباب) إذ «تُعلن الشخصيات عن ندمها لأنها سكتت عن قتل اجاممنون».  بينما حضرت المأساة في مسرحية (جلسة سرية) من خلال عزلة الشخصيات رغم وجود تفاعل مع الآخر، لكنَّ الكل يعاني من العزلة، وكأنه يحقق عبارته الشهيرة: «الآخرون هم الجحيم» وهو ما يُعبِّر عنه المهدي بقوله: «يرفع سارتر المعنى المتعارف عليه للجحيم، بوصفه تعذيباً مادياً ليمنحه سمة أخرى، سمة عذاب الروح من وجود الآخر، مهما كان وجوده».

أما الموت، فقد كان هوية المأساة التي اعتمدها سارتر في مسرحية (موتى بلا قبور)، حيث صراع الثنائية الوجودية: الخير والشر، ورغم طول المدة الزمنية لهذا الصراع؛ إلا أنَّ سارتر اختزله زمنياً في مسرحيته بـ 24 ساعة؛ ويعلل شفيق المهدي ضغط الزمن هنا؛ لمنح المأساة قيمة أشد، تؤكد ما أسماه بـ «البنية الزمنية الكيانية» عند سارتر، فيصل المهدي إلى خلاصة تطابق الزمن المسرحي مع الزمن الفلسفي، عند جون بول سارتر، الذي تميز عن زملائه الآخرين في البحث عن الزمن الخاص للفرد الذي يبحث عن حريته، عبر المأساة والصراع الوجودي المرير مع ذاته ومع الآخر، ويوصي بضرورة استيعاب مميزات الزمن، محذراً في ذات الوقت من عدم انطباق نصوص سارتر على واقعنا الحضاري.