جوديا .. أمير سلالة لكش الثانية

ثقافة 2023/04/17
...

  وارد بدر السالم

حظيت بلاد الرافدين بدراسات كثيرة من المستشرقين والباحثين والدارسين والمهتمين بالشأن التاريخي القديم، وكانت جل إسهاماتهم الدراسيَّة والبحثيَّة تكشف دائماً ما هو دافع لبحوث اكتشافات أخرى في مكان غزير بالآثار والوثائق وبقايا عصور قديمة في بلاد ما بين النهرين. مثلما حفظت لنا السجلات العراقية القديمة الكثير من سيرة تلك البلاد وملوكها وإنجازاتها ومعطياتها الثقافيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة والعمرانيَّة وحروبها الطويلة ضد الغزاة. وكانت الوثائق الرسمية المكتشفة في الألواح الطينية، تشي بأهميتها السياسية والاقتصادية وفرادتها الزمنية بأن تبقى ممسكة بتقاليد الحكم المدني.

ويمكن الإشارة بشكل واضح، وعبر الشواهد والمتروكات الآثارية الرافدينية الكثيرة، بأن العراق القديم مُنشئ سرديات الحضارة المدنية، ومسهم في تأسيس الديانات الأرضية، كما هو مهد الرسالات السماوية المعروفة، وكاتب الملاحم والأساطير في تدويناتها الطينية التي وصلت الى عصرنا هذا. فالملوك السومريون على تعاقب الأحقاب الزمنية والسلالات، كوّنوا أرضية أسطورية وملحمية في البلاد، ما تزال مثار بحوث ودراسات استشراقية وعربية كثيرة، نظراً لأهمية ما تركه الأسلاف من لقى ووثائق وسجلات مدنية، توضح الأثر الرافديني الثقافي المتقدم في عصره ثقافياً وفنياً وعمرانياً.

كتاب (جوديا - أمير سلالة لكش الثانية) للباحثة حنان شاكر حمدان، يبحث في المدينة التاريخية لكش وأميرها جوديا الملك الثاني عشر لسلالة لكش (عاش في عصر الانبعاث السومري عقب حكم الأكاديين) والذي يصفه بعض الباحثين بمنزلة نبي لثراء التجربة الروحية التي عاشها، وهذه ليست إشكالية كبيرة في الاستنتاج ما دام أصل نظرية الحكم في بلاد الرافدين (عن طريق التفويض الإلهي) فهو الذي (رأى الإله في مناماته) غير أن الباحثة تثبّت رأياً آخر يقضي بأن جوديا (مجهول النسب) ويُرجح بأن أمه كانت كاهنة عظمى.

( أنا لا أملك أماً .. أنتِ أمي)

( أنا لا أملك أباً.. أنت أبي)

( ولقد ولدتني في المعبد المقدس)

ما يلاحظ على هذا الكتاب المتخصص بأنه لا يتوسع كثيراً في تفاصيل الحياة اللكشية ولا تفكيك حياتها الاجتماعية والطقوسية الدينية إلا ما ندر وبإيجاز شديد، لاعتماده على الأرشفة والسجلات والذاكرة التاريخية، وما دونه المستشرقون والباحثون من آثار حياتية وملوكية ودينية وتجارية وعسكرية وعمرانية، عبر الرسومات والوثائق الملكية. ومن المؤكد بأن هذا التوثيق سيخضع لمصادفات المستقبل وما ينتج عنه من اكتشافات وحفريات جديدة قد تعزز وتضيف ما وَصَلنا من أثر. ومثل هذا التوقع طبيعي ومألوف في رصد المدن القديمة وأهميتها الدينية وما لها من انجازات ومقامات وأفضليات اقتصادية وروحية وعسكرية. فالحفر الأركيولوجي مفتاح مباشر للوقوف على صورة التاريخ القديم في مدنه المندثرة. ومنها لكش السومرية، وكل المدن التي تركت وراءها أطلالاً من المنجزات الحضارية المعروفة وغير المعروفة.


لكش التاريخيَّة

اختيار الباحثة مدينة لكش التاريخيَّة موضوعاً لبحثها ودراستها عن بلاد سومر، عبر أميرها جوديا يستعرض؛ باقتضاب شديد؛ تلك الحقبة الزمنية عبر المدينة المزدهرة سياسياً وعمرانياً في أربعة فصول. ويأتي التعريف بلكش كونها أنشأت سلالة عظيمة أسسها « اور- نانشة 2550 ق.م» ومن هذا القِدَم التاريخي توالت البعثات الأجنبية عليها بحثاً وتنقيباً منذ أواخر القرن الثامن عشر (اكتشاف معبديها المكرسين للآلهة إينانا والإله ننجرسو، والعثور على 5300 رُقيم طيني في مدينة كرسو التي تعود الى عهد الأمير أنتمينا)، وهذه المكتشفات الدينية طبيعية في بلاد تمتلئ بالآلهة وأنصافهم، وتفوض شؤونها اليهم.


الأمير .. الراعي

الأمير جوديا الذي نسب اليه لقب «الراعي» هو من الألقاب الدينية التي شاعت في العصور السومرية المتوالية وكان (أول ظهور لهذا اللقب في العصر السومري القديم متمثلا بالحاكم لوكال زاكيري)، ونعتقد أن هذا اللقب يرتبط بالبيئة الزراعية والفلاحية أكثر من كونه مرتبطاً بالبيئة المدنية. لهذا فإن اللقب الذي كان عليه الأمير جوديا هو لقب رعوي شاع في العصور السومرية، وتمثّله بعض الأمراء والملوك السومريين.


التجارة والفن

توجز الباحثة أبرز الآثار المكتشفة في دولة لكش في النحت المجسم والبارز والغائر (تماثيل من الديورانت الأسود والحجر الرمادي والمسلات والأواني الفضية ومجموعة الألواح النذرية والأختام الأسطوانية) مع الإشارة الى أهمية لكش ومراكزها المدينية (تل الهبة - تل اللوح- مدينة سرغل- فضلا عن مدينة كو- أبا) التي توطد فيها نظام حكم مدني ساد في عصر السلالات الذي (امتدت جذوره الى الألف الخامس ق.م.) ولو تخطينا ما تم فيه من انجازات في زمن سلالة لكش الأولى من دون تفاصيل كثيرة، سنجد أن الأمير أور- ننجرسو هو (أول حكام) سلالة لكش الثانية على عكس ما أشاعه الباحثون والمستشرقون من أن مؤسس السلالة هو أور- بابا. وهذا يؤكد نظريات الحفريات التي لا تنتهي في البحث عن كمال المراحل التاريخية والسلالات المتعاقبة عليها.

وجوديا في عصره الذهبي اكتظ بالمنجزات العسكرية والمدنية، فهو عصر بناء كما يتوضح ذلك من الجداول التي اعتمدتها الباحثة، لا سيما المنجزات الدينية، فتلك العصور زاحمها الدين بطريقة مباشرة، لهذا نجد عصر جوديا عصر بناء المعابد والعمران الديني، ويمكن الإشارة الى أبنية ومعابد الابننو ونطاق السماء ومعبد الاله ننخرساك ومصلى الالهة اماكشتن ومعبد الإله دموزي ايزو ومعبد الإله أنكي ومعبد الإله كاتمدوك- والاله ننازو. وهذا يعني أن عصر جوديا عصر عمران ببناء ثلاثة عشر معبداً بنيت من قبل الأمير جوديا، وهو الذي أعاد بناء أحد عشر معبداً وثلاثة معابد خارج حدود الدولة. وهذا يتيح للعامل الديني أن يكون عاملاً مركزيا في الحياة اليومية اللكشية والسومرية بشكل عام. وحتى مع هذا العمران الديني، لم تنقطع صلة عصر جوديا التجارية عبر منافذ دلمون «البحرين» وشرق ايران وأفغانستان وشرق بحر قزوين و»مكان» وميلوخا «نهر السند» ما يعني نشاط البلاد الداخلي والخارجي في التوزيع والإيراد التجاري كان على أكمل وجه. ومثلما كانت التجارة بشكلها العام أهم ما يميز هذه الدولة، فإنها تميزت بالنحت وأسلوبه، من تماثيل ونُصب (ذات المضمون الديني الصرف) من الديورانت الاخضر والاسود والابيض والحجر الكلسي. (التماثيل الأكثر عدداً لجوديا محفوظة في متحف اللوفر والقليل منها في المتاحف العالمية ومنها تمثال مفقود الرأس في المتحف العراقي) أما تماثيل جوديا الشخصية فكانت هيأته تتميز بغطاء الرأس «الطاقية» المصنوعة من القماش أو الفرو، والرداء بالأطراف المهدّبة في اغلب تماثيله. مثلما ترك لنا عصره تماثيل النساء والثيران المصنوعة من حجر الستيتانت، ورأس صولجان ولوحاً نذرياً وحوضاً من الحجر الكلس وعدداً من المسلات.

***

جوديا أمير سلالة لكش الثانية- حنان شاكر حمدان- دار الشؤون الثقافية - بغداد- 2021.