في ميلاده الـ {64}.. مجيد مجيدي مخرج ٌ سائرٌ بطيف طفولته

ثقافة 2023/04/17
...

  مروان الشربيني 


مات والد المخرج مجيد مجيدي وهو طفل، فاضطر لتحمل مسؤولية أسرته، ومواجهة مصاعب عيش ربما تستعصي على من هم في سن المسؤولية الطبيعي، لكن تلك الظروف القاسية التي خاضها، على العكس، نعمة شكلت لاحقا عالمه السينمائي المتفرد والتزامه الفني، وجعلته واحدًا من أبرز المخرجين الإيرانيين. في سينما مجيدي يظهر ذلك الطيف البعيد من طفولته الصعبة، والقيمة التي تمثلها مفردة أسرة، أوضح من فيلمه الأول (بادوك) -الفائز بجائزة مهرجان فجر- مشروعه السينمائي، الأطفال خصوصًا المتشردين والفقراء من خلال قصص إنسانية وشاعرية في بيئة سياسية واقتصادية متدهورة.

 انبثقت سينما مجيدي الموضوعية من ذاتيته، ومن ذكريات طفولته، عاش المخرج طفولة استطاع تقديم سينماه بفضل تجربته فيها، واختلط فيها الذاتي والموضوعي، ونجح في استخدام شخصياته للتعبير عن رؤيته للعالم وللطفولة خصوصًا.

يعتمد مجيدي كثيرًا على الواقعية بطرق مختلفة، وهي عامل مهم في سينماه لتوصيل المشاعر للمُشاهد مكثفة، ويقدم الواقعية وحياة الأفراد بشكل مميز، فتتخطى الشخصيات فكرة المجاز والرمزية لتصبح شخصيات حية.

وقد أصّل لهذه الفكرة في فيلمه "أطفال الجنة"، إذ استخدم فيه كاميرات خفية، هدفه منها التقاط المشاعر الحقيقية للأطفال، وليأخذ الممثلون مساحة أكبر من الراحة. بينما يستخدم في فيلمه "أطفال الشمس" شكلاً  آخر من أشكال الواقعية، في اختياره لأبطال الفيلم أطفالاً حقيقيين من العاملين في الشوارع. الأطفال المشردون والمكافحون يأتون من خلفية قاسية مثل ملامحهم، وتبرز طاقتهم الغاضبة الواضحة في تمثيلهم. فالطفل البطل (روح الله زماني) في أول تجربة تمثيل له، من الأطفال العاملين في شوارع طهران، و(شاميلا شيرزاد) هي مهاجرة أفغانية تعمل في المترو. غالبًا ما تكون مغامرات المخرج تلك رهانات غير مضمونة، لكنه يجيد التعامل معها والنجاح فيها، على صعيد جذب تعاطف وتركيز المشاهد، وأيضًا إخراج كادرات ممتعة ومعبرة.

إظهار نبل الأطفال وبراءتهم، من الأشياء التي تشغل مجيد في حبكاته، ومعظم الثيمات لديه تدور حولهم. إذ لا يقوض نضالات شخصياته بل يبني السرد حولها وينتج صورة صادقة من منظورهم، وهنا انعكاس صادق للطفولة.  يظهر ذلك في فيلم "أطفال الجنة"، عندما يفقد الطفل "علي" حذاء أخته "زهراء" واضطرارهما إلى مشاركة حذائه، يركز الفيلم على صعوبة تأقلم الطفلين على مشاركة حذاء واحد بينهما وإخفاء حقيقة فقدهم للحذاء عن والديهما المثقلين بأعباء مالية كبيرة، رغم أنهما يواجهان صعوبة ومواقف محرجة. وعندما تجد زهراء حذاءها المفقود في قدمي فتاة في المدرسة، يتبعانها إلى منزلها، يلاحظان أن أسرتها أكثر فقرًا منهم فيقرران العودة دون محاولة استرجاعه. يقرر علي المشاركة في احدى المسابقات، أراد الفوز بالمركز الثالث تحديدًا لأن جائزته حذاء يريد الفوز به ويعطيه لأخته. لكنه يحرز المركز الأول، يثبت الكادر على نظرته الدامعة المليئة بالحسرة إلى الحذاء، حسرة الأطفال الفقراء الذين يعوزهم المال لا السعادة.

كما يخلق فيلم "ما وراء الغيوم" بعضًا من أكثر اللحظات تأثيرًا في الروابط مع الأطفال، إذ يضعهم كمنقذين أخلاقيين حتى لو كانوا أيضًا ضحايا غير مقصودين للفساد والجشع والظلم المنهجي، ذلك من إحدى ثيمات مجيدي، الأفعال التي تؤثر من دون قصد على الآخرين، مثل مشاهد أطفال أكشي في بيت "أمير"، البراءة المطلقة لبنات أكشي، تذوب المظهر الخارجي المتصلب لأمير، على الرغم من كراهيته لوالدهم المتحرش بأخته "تارا" وسبب سجنها. في الوقت نفسه على الجانب الآخر تتكون رابطة أمومية، غير متوقعة، مع الابن الصغير المؤذي لزميلة مريضة "تارا" في الزنزانة يمنحها إحساسًا بالدفء والرفاهية في محيطها القاتم.

في فيلمه "أطفال الشمس" يفتتحه بتعليق يخصصه لـ 152 مليون طفل حول العالم تم إجبارهم على عمالة الأطفال. إنها إحصائية مهمة وواعية، ولكنها ليست بالضرورة إحصائية تقودك إلى توقع ترفيه ممتع. وفي الواقع على الرغم من ذلك فإن أطفال الشمس رحلة مثيرة تمامًا. قال رائد زاده المتحدث باسم مجلس ترشيح أفلام السينما الإيرانية لجوائز الأوسكار: "إنه وقع الاختيار على هذا الفيلم والذي يدور حول عمالة الأطفال، من بين نحو 90 فيلماً محليًا، لتمثيل إيران في الأوسكار 2021".

سينما مجيد تقليدية وبسيطة، تُظهر إحساسه العميق بالموضوعية -البساطة والعمق معاً في آن واحد هو عمل إبداعي- تكشف المعاملة القاسية للأطفال الذين ظلمتهم الحياة. يحاول تسليط الضوء عليهم، لكنه لا يُقدم حلولًا. يحاول الانتصار لهم، فيُعطي صوتًا للإنسان العادي، بشكله الباهت، وبمشكلاته، كأن مجيدي يوقف العالم عنده للحظة، يسمعه العالم، ويعطيه دور البطولة.

يميل للرمزية ويتعاطى مع القضايا المطروحة دون أية محاولة استجداء شفقة، ويتجنب الوقوع في فخ الخطابة المُبالغة، وبمنتهى الشاعرية وعدم الافتعال يتمكن من ايصال رسالته. وفي ظل الأنظمة الرأسمالية المتوحشة التي خلقت إنسانًا خاوياً من إنسانيته، يحاول مجيدي أن يذكرنا بإنسانيتنا.

 تجمع سينماه شخصيات مبتورة، لا يبحثون عن الكمال المطلق، لكنهم يريدون التغلب على الظروف المجبرون عليها، وإكمال النقص بداخلهم، شخصيات حالمة في واقع قاسٍ. يتطلعون للخلاص من أجل الآخرين من أسرهم لا لأنفسهم، لكنها انتصارات وهمية بلا تأثير واقعي على حياتهم. لذلك تكون نهايات الأفلام مفتوحة، تدلل على لا جدوى العالم.