عزيز السيد جاسم مثالاً

منصة 2023/04/17
...

  أ.د. قاسم حسين صالح


توطئة 

نقصد بالحاكم.. الرجل الأول في الدولة الذي يرأس حكومة مسؤولة عن إدارة شؤون الناس والوطن، سواء كان النظام دكتاتوريا او ديمقراطيا. ونقصد بالمثقف.. الذي يؤلف ويكتب وينشر في قضايا تخص الفكر بكل أنواعه والحياة بكل مجالاتها، ويكون مخلصا للحقيقة وصادقا مع نفسه.

هذا يعني أن الحاكم والمثقف يجمعهما ميدان مشترك من القضايا التي تخص الناس والحياة، ولكنهما يختلفان في أمرين: المنظور الفكري الذي يحملانه بخصوص هذه القضايا، وأساليب التعامل معها. 

فالقضية عند الحاكم تقاس على ما يمكن ان تكون عليه، فيما يقيسها المثقف على ما ينبغي ان تكون عليه، والفرق كبير بين الحالين. ومن هنا فإنَّ الاشكالية بين الحاكم والمثقف قد تحكمها البرانويا.. أن وجد الحاكم ان المثقف صار خطرا عليه.

الوسيط.. بين عزيز والحزب الشيوعي 

تعود علاقتي بعزيز السيد جاسم الى الخمسينيات يوم كان طالبا بدار المعلمين في مدينة الناصرية. 

كانت في الدار اذاعة داخلية يتحدث فيها كل صباح، وقد وجد عندي بعض اللباقة فاستضافني.. وتطورت العلاقة بعد ان عرف انني من قرية (السادة البوهلاله) التي تبعد سبعة كيلومترات عن مدينته (سوق الغازية - النصر حاليا).

أخذ عزيز يزوّدني بكتب كانت ممنوعة لا أعرف من اين يحصل عليها.." فولتير وروسو وروبسبير، ثم بدأت أتعرّف على نيتشه وشوبنهاور، وديكارت، وكانت.. حتى وصلت الى ضفاف الفلسفة الأوروبية، إذ استطلعت، فرأيت ماركس، وهيجل، وفيورباخ، وانجلز، والفلاسفة الأنجليز. كذلك تجولت في عالم توم بين، ولنكولن، والسياسيين، والروائيين، والمفكرين". (كتابه علي سلطة الحق صفحة 54). 

ودخل عامل الثقة بيننا لتكون صداقتنا أقوى. 

وافترقنا حيث تخرج هو قبلي ليتعين معلماً في احدى مدارس مدينته (الغازية). 

وفي العام 1960 كنت أنا قد صرت شيوعيا ومسؤولا عن تنظيم الشيوعيين في مدينته. 

وكانت تأتيني رسائل من اللجنة المحليَّة في الناصرية، المسؤولة عن تنظيمات الحزب في كل مدن المحافظة وقراها، ملفوفة كما لو كانت (جكارة لف) معنونة له، فأوصلها له عبر مسؤول خلية تنظيم مدينته التي اجتمع بها، عرفت بعد حين أن هنالك خلافا بينه وبينها.. تطور فيما بعد الى قطيعة، فهمت بعدها أن عزيز ترك او استقال من الحزب لأسباب كانت فكريَّة وسياسيَّة.

كنت أنا قد فصلت من وظيفتي معلماً في المدرسة بقريتي (البوهلاله) القريبة من مدينة الشطرة، فجئت الى بيت أختي في العاصمة بغداد أبحث عن عمل. 

كنت حينها أدخن السجائر من نوع (الجمهورية)، ولدى مغادرتي مقهى (البرازيلية) بشارع الرشيد حيث كانت ملتقى المثقفين، متوجها الى بيت أختي بمدينة الحرية، لم يكن في جيبي سوى أجرة باص المصلحة وكم فلس، وآخر سيجارة في جيبي. 

فوقفت بمنتصف جسر الشهداء ووجهي الى دجلة.. أخرجت السيجارة.. شعلتها.. بدأت أدخّن.. وتحول المشهد الى دراما بيني وبينها.. في لحظة وداع كأنها حبيبتي.. ورميتها في دجلة بعد حوار وكم دمعة!

ونعود لعزيز، ففي العام 1970 زارني في بيتي وفد من الحزب الشيوعي العراقي وطلب مني الاتصال بعزيز السيد جاسم لأعرض عليه رغبة الحزب بالعودة اليه.

وكان عزيز في حينها يكتب في جريدة حزب البعث (الثورة) مقالات تنتقد الحزب الشيوعي. اتصلت به والتقينا بسهرة في شارع ابي نواس، واعتذر عن تلبية الدعوة بالعودة، منتقدا قياداته الحالية والسابقة.

كانت آخر مرة التقيته فيها يوم كان رئيس تحرير مجلة (وعي العمال) بموقعها الذي هو الآن داخل المنطقة الخضراء. دخلت مكتبه في مقر المجلة فلمحت عليه مجموعة من الأدوية، سألته عنها فقال: ضغط وسكر وكلشي يخطر على بالك، فهمت انه يعاني من ضغوط نفسيَّة. حاولت أن أعرف الأسباب فأشار لي بعينيه ما يعني ان المكان مراقب، واتفقنا ان نلتقي مساءً.. والتقينا في سهرة حيث كنا كلانا نحب شرب ما نشتهي ليلة تكون السهرة في كازينو تصدح بها أم كلثوم بشارع ابي نواس!.


عزيز.. مفكر استثنائي

يمتاز عزيز أن وعيه الفكري كان من صباه سابقا لعمره، وانه عمل من حداثته وبداية شبابه على تعميق هذا الوعي وتنوعه (الذي كان هو السبب في تصفيته!). 

وانعكس ذلك على نمو (الأنا) لديه وعلى تكوين شخصية طموحة تسعى لتحقيق اهداف مثالية في واقع معقد. 

ولقد عزز اعتداده بنفسه، اعتراف رموز النظام بمن فيهم رئيسه صدام حسين بقدراته وتفوقه على شخصيات تحتل مراكز ثقافية وسياسية متقدمه.

 ولأنَّ شخصية كهذه تكون ناقدة وجريئة وغير قادرة على المساومة والانبطاح، فإنَّ الخيبات التي تعرض لها عزيز عرضته الى احباطات وضعته أمام خيارين: اما التخلي عن تحقيق اهدافه او التحدي الذي اختاره. ولأنّه أدرك أن خصمه لا يرحم فقد استعان روحيا بوسيلة سيكولوجية هي اللجوء الى الدين، ليخفف من معاناته من جهة وليعزز الثبات على الموقف من جهة أخرى، عبر انجازات ثقافية كانت اكثر من عشرة مؤلفات وروايات مميزة في عقد الثمانينات فقط!.. بينها كتابه (علي سلطة الحق) الذي انجزه عام 1988. وما كان هو السبب في حينه لاعتقاله، لكنه كان سببا لاحقا لاحتجازه بعد ثلاث سنوات، والطلب منه كتابة ثلاثة كتب عن الخلفاء ابي بكر وعمر وعثمان. ويشاع هنا، ان من قام بكتابتها هو شقيقه الدكتور محسن الموسوي (موجود في اميركا الآن) بالتعاون مع آخرين. 

وأشيع ايضا انها حين نزلت الى الأسواق دفعة واحدة، كثر اللغط حولها فأمر صدام بسحبها من الأسواق.

 

الحاكم.. يقهر المثقف التنويري

كان عزيز قد كتب كتابه (علي بن ابي طالب سلطة الحق) كما اراده هو. والموجع والمفجع ان الحاكم (صدام) امر المثقف (عزيز) ليس فقط ان يعيد كتابته، بل وان ينكر انه كتب ذلك الكتاب، ما اضطره ان يكتب في النسخة الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والاعلام (1988) بالنص:

(وبالمناسبة، علمت ان هناك كتابا مطبوعا بالخارج بالعنوان نفسه "علي بن ابي طالب سلطة الحق" يحمل اسمي، وهو كتاب لا علاقة لي به حيث انه يتضمن مفاهيم انا بريء منه، وان هذه النسخة التي بين يدي القارئ الكريم هي الكتاب الوحيد الصادر عني. المؤلف عزيز السيد جاسم – بغداد) الصفحة 62.

 والموجع اكثر أن الحاكم (صدام) أذلّ المثقف التنويري، وان المثقف (عزيز) خشي بطش الحاكم، فاضطره ان يمدح الحاكم كمن يتجرع السم فكتب بالنص: (ونحن، في ظل قيادة البطل العربي الاصيل صدام حسين نسل الامام علي بن ابي طالب...) صفحة 158

واستشهد في اكثر من مكان بعبارات من كتابات صدام (في الدين والتراث، وكيف نكتب التاريخ) مثل: (قال السيد الرئيس: ان ايماننا بالسلام ليس حالة ظرفية تكتيكية....) ص 123

و: (ومع ان الفارق التاريخي كبير وقديم، الا اننا لا يمكن ان نقول ان قيادة العراق المتمثلة بسيادة الرئيس صدام حسين....) ص 135

 ومع كل هذا الإذلال، فإنَّ مدح المثقف التنويري للحاكم.. لم يشفع له!.

 

برانويا الحاكم.. لا ترحم

تعني البرانويا.. الشك المرضي بالآخر الذي يفسّر حتى همس اثنين في مسألة خاصة بهما بأنّه تآمر عليه. 

بل يصل الى ان المصاب به يقتل حتى امه حين يوهمه شكه المرضي بأنها ستضع السم في طعامه، وهذا ما يحصل للحاكم في موقفه من المثقف التنويري. 

والذي حصل ان عزيز اعتقل في 15 نيسان 1991 للمرة السادسة، ولم تفلح مناشدات مفكرين عرب واجانب ومذكرة قدمت الى امين عام الأمم المتحدة (كوفي عنان) بإطلاق سراحه. ومع تعدد الروايات حول طريقة تصفيته، فان المتفق عليه ان جثته لم تسلم الى أهله، وان مصيره ظل مجهولا.

والمؤسف في هذه الواقعة ان المثقف التنويري الذي يحصل له ما حصل لعزيز السيد جاسم، يخسر حتى الذكر الطيب بعد رحيله. فلا الحزب الشيوعي العراقي استذكر عزيز بوصفه انموذجا لشيوعي ناقد لفكر الحزب (وكنا اقترحنا عليه). 

وانه ظل نسيا منسيا في عهد حكّام يدّعون أنهم أحفاد علي وأخلص شيعته، مع أنه علوي ومؤلف لكتاب (علي سلطة الحق). 

وتعلّمنا هذه الإشكاليَّة أنَّ الأمر لا يختلف ما اذا كان الحاكم في نظام دكتاتوري او ديمقراطي، فعزيز السيد جاسم كان أنموذجا لعلاقة الحاكم الدكتاتوري بمثقف تنويري، وكامل شياع كان أنموذجا لعلاقة الحاكم الديمقراطي بمثقف تنويري تمت تصفيته ايضا!

وستظل الإشكالية قائمة في العراق الى ان تتخلص الجماهير من ثقافة القطيع وتأتي بحكّام يؤمنون بتداول السلطة!