الفلسفة والإنسان في الكون

ثقافة 2023/04/18
...

 عبد الغفار العطوي

النظريَّات العلميَّة التي يقدمها علماء الفيزياء والكون، تتعلق بنشأته وعمره، مختلفة وكثيرة، ومتنافسة تدحض بعضها البعض، وتسقطها من تاريخ الكون، ولا يستقيم لها أثر، فقط تدخل ضمن مجرى تاريخ العلم، ووفق هذا المعيار تثبت نظرية الانفجار العظيم قبل أن تكون نظرية، أي كانت عبارة عن تصور الكاهن الروماني  الكاثوليكي جورج لوميتر وضعها آرثر ستانلي ادنغتون في حيز النظرية الأكثر قبولا من حيث التفسير المتعلق بنشأة وتطور الكون  الحالي.

إنَّها النظرية العلمية القابلة لتفسير ما نتوقعه نحن البشر لغموضها ولقربها من التصور الديني الذي على ما يبدو هو تصور عام يتفق عليه معظم الأديان والديانات ونجده في أغلب تخيلاتنا، باعتبار أن الكون الذي نعرفه اليوم  في صورته المادية (المتصور بالكون المنظور، وليس كما في نماذج أخرى كالكون الأزلي) الذي قدر عمره 8 و 13 مليار سنة منذ تكوينه، وانتشاره على سعة  متسارعة في الفضاء الفارغ على شكل حركة طاردة من المركز نحو مدارات لا نهائيَّة. 

ويقر علماء الكون أن ذاك الانفجار المادي الساخن يشهد توسعاً وبعداً مهولاً بين أجزاء كتله، ومازال الكون يسير بخطى سحيقة وبتعجيل مروع يحيّر العلماء في مسألة التوسّع التقريبي الذي لم تستطع النظريَّة النسبيَّة العامة والنظريَّة النسبيَّة الخاصة اللتان وضعهما البرت أنشتاين (1879- 1955) من تأييده بصورة عامة، بينما قدر علماء الأرض والأنثربولوجيا والحفريات عمر الأرض  بـ 44, مليار سنة لكنهم قدروا عمر الإنسان بأقل من عمر الكون بكثير، ورجّح أن الفارق الزمني بين نشوء الكون واستقراره بالصورة الكونية المادية وخروج مجموعة من السلالات الآدمية (افتراضاً لعجز العلماء عن تحديد الزمن التقريبي في ظهور تلك السلالات) كان كبيرا، ويضعون لهذا الفارق فجوة تكوينية سادت فيها كائنات بدائية، وربما متطورة الأرض (وربما يدخل الخيال قليلاً فيشمل الكون الأكثر بعداً عن مركز الكون المتوسع نحو الاطراف المادية الشاسعة عن بؤرة الانفجار) هنا لا يستطيع لا العلم ولا الفلسفة التكهّن بوجود ما يخالف ذاك الكون. 

والتدليل على وجوده، واختلافه، لكن الديانات تقدر أن تبوح بوجوده، وإن اختلفت في تسميته بلفظه إلا أنها أقرت بمعناه (الخالق أو الموجد)، لكن ميل تلك الديانات إلى الخرافة والأسطورة جعلها تؤكد على الصفة المتعالية له، ألا وهي القدرة، وهذه تكفي للتدليل على حقيقته.

لهذا غطت الخرافة تاريخ الأرض بالملايين من السنوات، التي شهدت تطورات الإنسان في قفزاته الداروينية، ليصل الإنسان العاقل (الجد الأول للسلالة البشرية التي ننحدر منها الآن) ولم يتبق من عمر الأرض والكون من تلك المتاهة سوى النصف من العمر الكوني، ولعل وصول الإنسان العاقل متأخراً، يفسر لنا اتساع الفكر الخرافي في الأرض، لدرجة بدا أنها راحت تمثل حجر زاوية في وعي الإنسان البدائي، وفي تطوره وقفزه على حقب سيادة الطبيعة وفرضها أنظمة سلوك تغلب عليها سمات التوحش والأنانية  والجحود والإبادة، لهذا كان تاريخ الإنسان عبارة عن مغامرات ضد تحديات الطبيعة وسقطات الإنسان ذاته، وإن ذاك التاريخ المهول في إنشاء حضارات بدائية وزراعية قامت على تلك السمات سرعان ما تهدمت جراء مغامرات مضادة، وبقي تاريخ الإنسان يتلخص في كيفية الوصول إلى فكرة الخلود البشري التي لخصتها فلسفة (ملحمة جلجامش) قبل أن تطل الفلسفة قبل (2600) من قبل اليونان، ولتتنفّس الإنسانيَّة الصعداء في حلول الإنسان العاقل المنطقي. 

فمؤرخو الفلسفة انقسموا إلى من قال إن تاريخ الفلسفة ابتدأ من ذاك التاريخ، وتحديداً من أرسطو طاليس وإدخاله علم أو فن المنطق (المنطق الصوري) كأنما ذاك المنطق قد ازاح غبار السفر البدائي الوحشي ليس عن الإنسان، بل عن جزء من كيانه ألا وهو العقل.

لهذا لم يعترفوا بمرحلة ما قبل التاريخ، وما قبل الحضارات، وحتى ما قبل الكتابة والفلسفة، بل كل ما قبليات، لكنهم  اعترفوا عن كل ممارسات الإنسان قبل ذلك الاكتشاف خرافة واساطير وديانات لا معنى لهذا قبالة جبروت العقل، فلم العقل؟ رغم إن الفلسفة بعد ذاك المخاض العسير لها بينها وبين الدين من جهة، وبينها والعلم من جهة ثانية، ظل الفضل يعود لها في كل ما اكتشفه الإنسان في صراعاته مع الطبيعة التي كانت أقوى مراساً وأمضى عزيمة، لكنها أي الفلسفة عملت للإنسان الشيء الكثير، شيء لم يخطر ببال الدين الذي انتمى لكل ما هو خرافي وأسطوري، ولولاها لمضى إلى النهايات المستدقة في الخرافة.

كما رأى العلم حاله إن الوقت حان كي يثبت شخصيته وهويته، فكر بالانفصال عن الفلسفة بكل تهور وقسوة، لكن الجميع قد نسي فضل الفلسفة التي كانت تملك القدرة على التمييز بين الثنائيات، باختلاقها مبدأ الكليات، والتعاون مع العقل في إيجاد سبل التعايش مع الأشياء بواسطة الكلمات، كان الأساس من كل ما وضعته الفلسفة منذ الانفجار العظيم حتى الآن هو عملية التفكير وتنظيمه، وعممت تلك الفكرة في وضع الخيال الذي كانت ترفضه في حدودها المنطقية، لكنها وجدته في فاعلية الأدب، وإن الاستعانة بالأدب مع العقل يجعل مساحة التفكير أوسع؛ فسيكون للفلسفة هيمنة على خرافة وأسطورة الدين (الديانة) ما دامت تلك الديانة لا تقبل في مسلماتها إلا الحقيقة من دون استعاراتها، مع ان لا وجود للحقيقة سوى في الاستعارات، يبقى الصراع بين الفلسفة والابن الضال؛ العلم، الذي استطاع بتمزيق تاريخ الفلسفة، وتبديد إنشاءاتها المعرفية التي لم تقدر في المحافظة عليها، وفشلت في أن تتصور الكون من دون مبررات فلسفية، لكنها انتهت على سراب التفلسف، لكن التفكير ضمن لها حقوقها في البقاء ما دام الكون لغزاً أمام الإنسان الذي هو في الأساس لغز كبير محيّر بالنسبة للفلسفة، لكن ضمانها في القيام بمهام صناعة التفكير لإنتاج قناعات ابستمولوجية في الإحاطة بالكون بشرط عدم التقرب من معرفته، لأن الفلسفة لا تعترف باليقينيات كما الدين، ولا برجحان الفرضيات التي تؤيد استشراف العلم بنتاجه المستقبلي، لا كل ما تفعله الفلسفة وضع الكون في ظواهر، تحليلها، وفق سير دقيق للتفكير، فأساس الفلسفة، فيما تعلمته من أنها لا تشكل رقماً مستقراً من عمر الكون ولا عمر الأرض، وكذلك عمر الإنسان فهي من الضآلة إن قارناها مع بعض، في مسار النظام الكوني الدقيق في الوجود الذي لا يحسب لكل هذه المجريات، لأنه يحركها من الخارج، ما يعفيها من التنافس مع الدين مثلاً، رغم امتلاء الدين بثلثي حجمه من الخرافة والأساطير إلا لكونها حركة ذاتوية منتظمة من ابتكار العقل  لمعرفته المحضة، فالتفكير الفلسفي (رغم معاناة الفلسفة من انتكاسات فلاسفتها في فهم وجني المعرفة) التفكير بما يخص الشيء، ويمكننا قلب معادلة مارتن هيدغر بكل سهولة.