وعلم نفس الانفعالات المرضي

ثقافة 2023/04/18
...

 كامل عويد العامري

الانفعالات جزء من حياتنا اليوميَّة وتثير اهتماما متزايدا. لكن ما هي الانفعالات؟ كيف نضع لها تعريفا؟ ما الذي يميزها عن العاطفة والشعور؟ ما هي مكوناتها ووظائفها؟ عادة ما تستخدم العناصر الفسيولوجية والذاتية والسلوكية لوصف الانفعالات. ومع ذلك، فإن فهم عنصرها الذاتي ليس بالأمر السهل، ولهذا السبب يقترح هذا الكتاب (علم النفس وعلم نفس الانفعالات المرضي لـ أوريلي باسكييه، الذي صدر 2021)، تقديم دراسة  وتحليل الطريقة التي بموجبها درست الظواهر العاطفية لأكثر من قرن في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. يعرض ويستجوب فيه الاضطرابات الانفعالية الأكثر شيوعا مثل القلق والاكتئاب، ولكن أيضا تلك التي تؤثر في التعرّف على المشاعر أو التعبير عنها، وكذلك طرق إدارتها العلاجية.

لطالما تُرِكَت مسألة الانفعالات جانبًا لأن الفكر الكلاسيكي (منذ العصور القديمة اليونانية) كان يتصورها كعقبات أمام العقلانية: فلأنها (تنتمي إلى سجل الجسد) كانت عكس العقل (الروح). بعد ذلك، أصبحت وفقا لداروين (1809- 1882)، في أصل «نظرية تطور» الأنواع، موضع بحث يدرس البعد البيولوجي بشكل أساسي. فهي فطرية (وراثية) أكثر من كونها مكتسبة، ومن ثم فهي شاملة. ولكن في نهاية القرن التاسع عشر أخذت الدراسات العلمية تركز على بعدها النفسي. 

 لقد أعطى التاريخ المعاصر للانفعالات مكانة أدت إلى ظهور نظريات ومناقشات منذ اللحظة التي فيها حُددت المشاعر بوصفها تلعب دورًا في العديد من السلوكيات الطبيعية والمرضية. من وجهة نظر اشتقاقية، يشير مصطلح «انفعال» إلى «التحرك» (exmover)، وهي كلمة لاتينية تعني “لبدء الحركة”: لقد أصبحت الأبعاد السلوكية و “الحسية” لتجربة الانفعالات بعد ذلك موضوعات بحث في علم النفس التجريبي فضلا عن علم النفس المرضي  فظهر المزيد  من الدراسات حول “أمراض الانفعالات”. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، أظهر التيار الاجتماعي والأنثروبولوجي أبعادها الاجتماعية والثقافية، يمكن أيضًا اعتبار البعد اللفظي، في عملية التبادل مع الآخرين حول تجاربهم، عنصرًا أساسيًا في فهم الحالات الانفعالية المرضية (بمعنى الحالة التي هي مصدر معاناة الشخص).

لقد تطورت دراسة الانفعالات في العلوم النفسية على نحو خاص خلال القرن العشرين من خلال أربعة تيارات بحثية رئيسة، طور كل منها، من وجهة نظرها وأساليبها في التحقيق، نظريته الخاصة من أجل تعريفها ودراستها وشرحها.

أقدم محور بحثي هو التيار البيولوجي. وهو مبني على عمل داروين (1872) الذي قارن ملاحظاته العديدة للتعبيرات الانفعالية (من خلال الاستجابات الجسدية ولكن أيضًا وقبل كل شيء عن طريق تعبيرات الوجه الانفعالية) للإنسان مع تلك الخاصة بالحيوانات. وتوصل إلى استنتاج مفاده أن المظاهر الانفعالية (الاستجابات الجسدية وتعبيرات الوجه) التي تميز الإنسان تتبع خطًا نسبيًا بقدر ما سيكون هناك استمرارية نسبية بين تلك الخاصة بالبشر والأنواع التي تقترب منه، أي الرئيسيات. والنقطة الأساسية الأخرى التي يدعمها داروين هي أن التعبير عن الانفعالات عالمي (موجود في جميع الثقافات وجميع البلدان) لأنه ناتج عن تطور الأنواع، والتطور الذي يعطيها طابعها الفطري وقيمتها التكيفية لبقاء النوع. 

هذا المفهوم لوظيفة المظاهر الانفعالية تتسم به كتابات مفكرين مثل ديكارت الذي اعتبر الانفعال ظاهرة طبيعية مصممة لخدمة وحماية حياة ورفاهية الكائن الحي. حيث أن اهتمامات الأخير تكون مصانة عندما تعمل الانفعالات في انسجام. وإلا فإنها تصبح عناصر مزعجة تمنع العقل العقلاني من العمل. 

وتجدر الإشارة إلى أن الأطروحات التي طورها داروين لم تحقق نجاحًا كبيرًا خلال حياته، على الرغم من أنها تشكل أساسًا للتقدم العلمي الكبير في ما يتعلق بالانفعالات ومظاهرها، إلا بعد قرن من الزمان حيث كان السؤال، على سبيل المثال، عن عالمية المشاعر موضوع دراسات عديدة (الفصل 2، ما يسمى بالعواطف الأساسية أو الأولية).

يجمع المحور الرئيس الثاني من البحث، والذي يمكن وصفه بالتيار الفسيولوجي، الأعمال التي تهدف إلى دراسة طبيعة الانفعال، بدءا من بمراحل نشأتها وحتى الظواهر التي تكونها. 

لقد ميز ويليام جيمس (1842- 1910)، عالم النفس والفيلسوف الأمريكي، هذا التيار من خلال اقتراح تفسير مخالف للحس السليم في ذلك الوقت والذي يعد الانفعالات كيانات نفسية فقط يمكن الوصول إليها من خلال المراقبة والوصف. وفي عام 1884، أيد جيمس بأن الانفعالات لا يعيها الفرد إلا عندما يدرك ردود الفعل الفسيولوجية المفاجئة التي تحدث بالتتابع نتيجة التحفيز:  التحفيز - رد الفعل الفسيولوجي - رد الفعل السلوكي - الشعور بالانفعال. إن التجربة الذاتية الانفعالية ستأتي في أعقاب رد الفعل السلوكي  المتتابع للتنشيط العصبي الانضباطي الانفعالي. بمعنى آخر، تسبق المظاهر الانفعالية وعيها وتتولد أولاً في أعضاء الكائن الحي المحيطية. 

وكان لانج هو من اقترح “النظرية المحيطية للانفعالات” وأطلق عليها أيضًا اسم “نظرية جيمس -لانج”.ويرى جون واطسون (1878- 1958)، عالم النفس الأمريكي، مؤسس السلوكية، في عام 1919 بأن الانفعالات تنحصر في ردود فعل فسيولوجية وراثية خالية من أي قوة التكيف. إنها تظهر عدم نضج الكائن الحي (تميل إلى الاختفاء في مرحلة البلوغ) والذي لا يمكن أن يكون إلا متطفلا من خلال هذه الظواهر التي يجب التخلص منها بسبب خطر الفوضى أو الأداء غير الفعّال. لقد ميزت هذه الفكرة ولا يزال من الممكن قراءتها اليوم في مناهج تهدف إلى تحديد ما يندرج تحت “الأداء الانفعالي الأمثل” المرادف لـ “التوازن الانفعالي” (المعنى الذي يمكن أن تتخذه هذه التعبيرات يثير تساؤلا).

وسعى والتر كانون (1871- 1945)، عالم وظائف الأعضاء الأمريكي، إلى دحض نموذج ويليام جيمس مبينا أن الاستجابات الجسدية ليست شرطًا لا غنى عنه لظهور المشاعر الذاتية. وصرح في عام 1927 أن الانفعالات لا تُثار في المحيط ولكن في الجهاز العصبي المركزي، على مستوى القشرة الدماغية. 

أتاح هذا التعارض بين النظريات المركزية والمحيطية للانفعالات تطوير العديد من الاستقصاءات خلال القرن العشرين لتعيين وتحديد مناطق الدماغ المسؤولة عن الانفعالات. وفي نهاية القرن العشرين، أظهرت أطروحة داماسيو، الأستاذ الفخري لعلم الأعصاب وعلم النفس في الولايات المتحدة، كيف ينطلق الانفعال (جميع التغيرات الجسدية التي يمكن اكتشافها في المختبر وعن طريق تصوير الدماغ) وكيف هو نفسه يطلق الشعور (“الخريطة” النفسية للانفعال)، أو كيف يعمل الانتقال من الجسد إلى العقل.

في العقد الأول من القرن العشرين، قدّم فرويد (1856- 1939)، مفهومًا للعاطفة يختلف اختلافًا جذريًا عن النهج النفسي للانفعالات. بالرغم من أن المصطلح الألماني Affekt يُترجم بالانفعال أو الشغف في القواميس الألمانية- الفرنسية، فإن مصطلح العاطفة هو الذي يعتمد في الترجمات الفرنسية، كما لو كان علامة على الاختلاف الأساسي الذي وضعه فرويد منذ بداية وضع تصوره: “لا تفترض أن ما قلته لك عن العواطف هو مكتسب يعترف به علم النفس الطبيعي. على العكس من  المفاهيم التي نمت على تربة التحليل النفسي والتي لا تملك حق الاستعمال إلّا عنده. فما يمكنك تعلمه في علم النفس عن العواطف، على سبيل المثال نظرية جيمس ولانج، بالنسبة لنا نحن المحللين النفسيين، فهي غير مفهومة تقريبًا ومن المستحيل مناقشتها”).

أحد الاختلافات الأساسية بين المناهج النفسية والتحليلية النفسية هو أن الأخيرة تهتم بالحياة العاطفية الواعية واللاواعية في منظور ديناميكي (هناك حياة خارج الوعي) حيث يتوقع علم النفس إمكانية لا وعي انفعال ما ( الوصول إلى الشعور الذاتي أم لا).. وحتى إذا كانت هذه المناهج تشترك في ترسيخ العاطفة في الجسد، فإن الأخيرة ليس لها التعريف نفسه في سيكولوجية الانفعالات (الجسم الجسدي والفسيولوجي) كما هو الحال في التحليل النفسي، الذي يؤثر على الفور في العاطفة، وهو مفهوم في منتصف المسافة بين الجسد والنفسية. (الفصل الثاني)، حيث لا توجد نظرية واحدة  حول العاطفة في التحليل النفسي لأن معنى هذا المفهوم تطور في أعمال فرويد.

ويتكون المحور الرئيس الثالث للبحث في علم نفس الانفعالات من دراسة العمليات المعرفية في العمل في الظواهر الانفعالية. فكانت  أعمال ماغدا بي. أرنولد ‏ (1903- 2002)، وهي عالمة نفس من أصل نمساوي هاجرت إلى الولايات المتحدة، قد شكلت في عام 1960 نقطة تحول في الدراسة النفسية للانفعالات من خلال محاولة حل صراع جيمس - كانون عن طريق ظهور مفهوم التقييم المعرفي (التقييم). هذه الأعمال قدمت تفسيرًا متماسكًا لحقيقة أن الحدث نفسه يمكن أن يؤدي إلى ظهور انفعالات مختلفة لدى أفراد معتبرين أو لدى الفرد نفسه في أوقات مختلفة. يمكن تفسير هذا التنوع في التجارب الفردية وبين الأفراد من خلال المعنى الشخصي الذي ينسبه كل فرد إلى الموقف الذي يواجهه. لذلك فإن تصور إدراك موقف ما ليس محايدًا أبدًا، فهو نتيجة للتجربة السابقة التي أضفت الطابع الشكلي على توقعات محددة. فضلا عن ذلك، يتضمن الانفعال ميلًا يتخذه كل فرد لإجراء محدد في مواجهة موقف واجهه، والميل إلى (إعادة) التصرف بطريقة مباشرة، بشكل حدسي، بوعي أو بغير وعي، بسبب التوقعات الناشئة عن التجربة السابقة. ويوسع ريتشارد لازاروس (1966) هذا المفهوم من خلال تقديم وجود عملية التقييم (appraisal) ولكن أيضًا إعادة التقييم (reappraisal) القادرة على تعديل الانطباعات الأولى فضلا عن الانفعال الناتج على نطاق أوسع، وقد طور لازاروس ومعاونوه، في الثمانينيات، أنموذج معامل الضغط النفسي، والذي يفترض أن عمل تقييم الشخص أساسي في علاقته المستمرة مع البيئة.يجب النظر في تيار رابع من البحث من خلال النهج الاجتماعي البنائي للانفعالات، وممثله الرئيس جيمس أفريل. 

ففي عام 1980، يعرّف أستاذ علم النفس الاجتماعي الأمريكي الانفعال كدور اجتماعي انتقالي يتضمن تقييم الفرد للموقف. في هذا المفهوم، الذي يأخذ جزئيًا عناصر من المناهج الأخرى، يكمن ما هو جديد في دور المجتمع في بناء التعبيرات الانفعالية والمواقف التي تنتج عنها. 

وستكون الانفعالات أنواعًا من النصوص scripts التي تحكمها معايير مرجعية اجتماعية وثقافية والتي ستظهر بطريقة انتقالية وفقًا لمتطلبات المواقف.

 ويتساءل أفريل عن وظيفة الانفعالات، بعيدا عن وظيفتها في بقاء النوع وطابعه العالمي. بالنسبة له، يمكن أن تكون الانفعالات حيوية من وجهة نظر اجتماعية أو نفسية، والأعراف الاجتماعية والقيم الثقافية المتنوعة. لقد شرع أصحاب البنائية الاجتماعية في البحث عن اختلافات أكثر بكثير من أوجه التشابه بين الثقافات (الغضب، على سبيل المثال، لا وجود له لدى شعوب الأسكيمو وخاصة شعب أوتكا). إن اللغة لها مكانة بارزة فيها (الوسم اللفظي هو الدعم التجريبي الرئيس) بقدر ما تمثل تمثيلًا جيدًا للانفعال في ثقافة معينة.

وخلاصة القول:  إنَّ الانفعالات التي حددها علم النفس المرضي أيضًا تتمثل في ما يسمى بالأشكال العادية: فهي تشير إلى اضطراب في الذاتية من دون أن تكون بالضرورة مرضًا عقليًا (على سبيل المثال: القلق، والحزن، الخ). إن التصنيف الذي يجعل من الممكن عزل الانفعالات “الجيدة” عن “السيئة” غير مجدٍ ولا معنى له: ينشأ علم الأمراض عندما يجري تحرير الانفعال، وعندما تتحول العاطفة، وتتموه، وتقمع، وعندما تعرف المخاطر التي تمنعها من تعبيرها المباشر. عن الآخر. إن “علم نفس الانفعالات المرضي “ يحاول فهم وتفسير هذه الاضطرابات التي تشكل جزءًا من الحياة اليومية.

إن علم النفس المرضي علم ملتقى طرق يتغذى على المعرفة من مختلف التخصصات: علم الأعصاب. الطب النفسي، التحليل النفسي. علم النفس المعرفي والاجتماعي والسريري. إلخ فيما يتعلق “بالانفعالات”، فإن النماذج النظرية، فضلاً عن الآثار السريرية والعلاجية التي تقدمها فهي نماذج غنية. حيث يحمل كل مفهوم لبنته إلى المبنى في استيعاب الظواهر الانفعالية والعاطفية. ويسعى البعض إلى وضع قوانين الأداء الانفعالي “الطبيعي” لفهم أفضل لتطور الأمراض الانفعالية والحفاظ عليها، بينما يهتم البعض الآخر بفهم وسماع تجربة الانفعالات الذاتية. 

إن علم نفس الانفعالات المرضي الحالي “منقسم” أقل فأقل (في فرنسا، على الأقل): الباحثون المهتمون بمسألة الانفعالات هم أيضًا أطباء (بمعنى “العيادة”، كونهم بجانب سرير المريض) يحاولون إنشاء جسور بين المقاربات الإنسانية للعاطفة (التحليل النفسي، الظواهر، إلخ)، والطبيعية (البيولوجية، المعرفية، السلوكية، إلخ) ومقاربات الانفعالات البيئية (الاجتماعية، التنموية، الأنثروبولوجية، إلخ) لوضع علم نفس مرضي تكاملي للظواهر العاطفية.