اللوحة من بغداد.. السيمفونية من البصرة

ثقافة 2023/04/19
...

  طالب عبد العزيز 

 عقدت البصرة لواء الكتابة على صعيدها، وانشغلت به، منذ تأسيسها، كأول حاضرة للعرب، خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت السيدة الأولى في علوم القرآن والحديث والشعر، وكانت ينبوع اللغة الأعظم، والعلامة الفارقة في النثر العربي .. وهكذا، ظلت مكاناً ومتغيَّراً ثقافياً على مرِّ العصور، حتى تربَّعت على عرش التجديد في الشعر الحديث، فكان السيَّاب ومحمود البريكان علامتا الريادة فيه، على الرغم من أن البريكان لم يشرْ اليه كما أشير الى السياب، للأسباب الشخصية التي عرف بها، والتي ليس أقلها ندرة الحضور الجماهيري وعزوفه عن النشر المبكر.

 يؤرَخُ للفن التشكيلي في العراق بإرسال البعثات الأولى من العراقيين الى أوربا، في ثلاثينيات القرن الماضي لدراسته والتمكين منه، فأُرسِل أكرمُ شكري إلى انكلترا عام 1931  وتبعه فائق حسن إلى باريس، ومن بعده عطا صبري وحافظ الدروبي إلى ايطاليا، وليتبعهم جواد سليم ومحمد غني حكمت إلى باريس، وهنا نلاحظ خلو البعثات من البصريين، وأنَّ غالبية الذين ابتعثوا كانوا من بغداد وربما الموصل، ولعلَّ مردّ ذلك الى حاضرة بغداد القوية، آنذاك ولطبيعتها المدنية، أو لكونها مركز الحكم، ومصدر القرار الرسمي، في الابتعاث، وربما كان والد جواد سليم وراء ذلك كله. 

يقول سعدي يوسف بأنه زار محمود البريكان في منزله، قبل سفره الأخير عام 1978  وأسـرره أمره في السفر، فكان الوحيد العارف بقراره:» أخبرني، وهو المقتصد في الكلام، أن حياته العملية لم تعد تطاق.

فقلت: والموسيقى؟

فقال: نعم مازلتُ أسمع الموسيقى».

هل ذهب البصريون الجدد، شعراء ونخباً ثقافية ومعرفية، عقب عقدين أو ثلاثة من تأسيس الدولة العراقية، وبعد ريادتهم للشعر الحديث الى الموسيقى دون الفن التشكيلي، الذي صارت بغداد سيدته؟ وهل ثمة من تحدٍّ هنا؟ سؤال أجدني قريباً من الاجابة عليه من خلال أسمين بصريين كبيرين هما (نجيب المانع -1926 -1991) ومحمود البريكان(1931 - 2022) وعلاقتهما المختلفة والاستثنائية بالموسيقى، دون غيرها من الفنون، وإذا كان القارئ لم يقرأ شيئاً مكتوباً بقلم البريكان عن علاقته بالموسيقى، لكنه، وحتى ساعاته الاخيرة كان يُسمعنا (نحن الذين كنا نزوره) في منزله بضاحية الجزائر، ويحدثنا بتفاصيل دقيقة عن اعمال موسيقية، عالمية مثل الاوركيسترا  والسيمفونيات،  وكونشيرتو البيانو وغيرها.

ويشير الى اسماء المؤلفين، أو يثني على عزف الفرقة هذه، ويتحدث عن غياب العازف الفلاني في المعزوفة الفلانية، ويعدد نقلات القطعة والسيمفونية وهكذا، لكنْ، لم يحدث أن سمعت منه كلاماً عن التشكيل والغناء، هو الذي أشار  علينا بسماع الموسيقى العالمية. 

   في أربعينات وخمسينات القرن الماضي كانت النمسا مقصد الأسر الثرية في بغداد والبصرة، يوم كانت يينا عاصمة الفن والموسيقى، فليالي الأنس كلها هناك، كما تقول أسمهان. 

كنتُ قد قرأتُ بإحدى زياراتي الى مدفن الاسرة الرفاعية(بيت النقيب) بمقبرة الحسن البصري في الزبير على أكثر من شاهدة عبارات مثل: (ولد في البصرة سنة كذا ومات في يينا سنة كذا) وهذا نجيب المانع يتحدث في كتابه(ذكريات عمر اكلته الحروف)قائلا:» .. فهناك ما يمكن ان يسمّى ارستقراطية بصريّة، وتمتلك الارستقراطية قدرات على التعلم في فترات الظلام» كان ذلك مما أشار عليه به صديقه، وزير التجارة ومحافظ البنك المركزي الاسبق، أيام الحكم الملكي عبد اللطيف الشواف(1926 - 1996 ). 

كانت الموسيقى هي التي اجتذبت النخب المثقفة في البصرة، ولم يجتذبهم الرسم والفن التشكيلي، بمعناه المعروف، والذي لم يكن  قائماً، حيث يؤرخ الفنان محمد راضي عبد الله (1934 - 2011) للرسم في البصرة بمنتصف الخمسينات، على يد الفنانين الذين تاثروا بالدفعات الاولى من الرسامين البغداديين، الذين تخرجوا في معاهد وكليات اوروبا، قبل ان يدرِّسوا الفن في معهد الفنون الجميلة.

وبذلك، يمكننا الحديث عن أكثر من عامل دفع بالمثقفين البصريين تجاه الموسيقى دون التشكيل.

ربما نجد في موقف الدين من التجسيم شيئاً من ذلك، وقد يكون بابا من أبواب المغايرة والتنوع.   نعتقد بأنَّ الكاتب والمترجم نجيب المانع، المولود في الزبير، القريبة من معسكر الانجليز بالشعيبة، هو أول من نبَّه الطبقة المثقفة في البصرة لأهمية سماع الموسيقى العالمية، متاثرا بما قراه اوائل الاربعينات، وهو طالب في الاعدادية عند توفيق الحكيم من إشادة بموسيقى السمفونية التاسعة لبتهوفن، وبما يحرك الخيال، الامر الذي دعاه لشراء جهاز غرامفون واسطوانات موسيقية من السوق الشعبية بالزبير، حيث تباع الكتب والمعلبات وغيرها. وبما أنَّ المانع يكبر البريكان بخمس سنوات فنرجح بانَّ الاخير أخذها عنه حب الموسيقى. 

لم يكتف المانع بسماع الاسطوانة المشخوطة المتعبة اداءً على الكمان لقطعة الجيكي «دفورجاك» واسمها»الاغاني التي علمتنيها أمّي» ولا بـــ (ليليات شوبان) التي وصلت الى سوق الزبير في ما بعد، ولا غيرها من اسطوانات وسيمفونيات بل ذهب يسمع ويتعقّب ويختبر ذائقه الغنائية، التي خلّصها تماماً من التطريب العربي وذهب بها نقيةً الى السماع والإنصات الغربيين.  

في تقديمه لكتاب المانع (جسارة التعبير)يكتب د. صلاح نيازي:« لم ار في حياتي يُتماً ذاهلاً كما رايت غرفة نجيب المانع.

كلها يتامى مذهولة، انقطعتْ عن التنفس والنبض. الكتب والاسطوانات» ونلاحظ أنَّ نيازي أيضاً لم يشر الى عمل فني آخر غير الكتب والاسطوانات. 

كذلك كان المانع في مؤلفاته الاربعة أو الخمسة، فهو صمت عن أيِّ علاقة له بالرسم والتشكيل، على الرغم من يقيننا بأنه أمضى النهارات الطوال في متاحف العالم.

في مادة له بعنوان(حذاء فان كوخ وكرسيه وغليونه) لم يأت على أعماله وفنه أبداً، إنِّما انصبَّ حديثُه عن فقره الاول وعن غناه بعد

موته.

 يقول صلاح نيازي: «من ذا يمتلك تلك الأذن التي تختزن آلاف الالحان؟» الغريب أنني لم أسمع من البريكان أيضاً حديثاً عن الرسم والالوان غير حديث الشعر والموسيقى.