الغرائبيَّة بين الفاجع والمدهش

منصة 2023/04/19
...

  ستار زكم 

في روايته الأخيرة (إلى المزاح أقرب) الصادرة ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2022، يقدم لنا الكاتب د. طه حامد الشبيب في هذه الرواية جملة من المتناقضات التي تحتل مساحة واسعة في تفكير الفرد والمجتمع الذي يصل به الحال إلى المتاهة والضياع.

المرتكز الاساسي في هذه الرواية يبدأ من ظاهرة شح المياه في الأنهر فتبدأ فوضى عارمة تعم البلاد بسبب توافد الأهالي لمشاهدة ما يحدث ونزوحهم الى اكتاف الأنهر لنصب مخيمات سكنية وحفر آبار ارتوازية في قيعان الأنهر، حتى تنبثق من هذه الفوضى أحزاب عشائرية تحاول السيطرة على الوضع المتأزم الذي يصل الى حالة الاقتتال لاحقاً بسبب العديد من التطورات الناتجة على مستوى الأحداث التي جاءت متسارعة ومضطربة بسبب العقلية المتخلفة التي تؤمن بالولاء إلى الجانب العشائري على حساب الانتماء الوطني مما يؤشر ذلك على غياب الهوية للفرد والمجتمع، حتى يصل الحال الى السيطرة على سلاح الدولة وكذلك على منابع النفط ومن ثم الوصول الحتمي الى حالة المتاهة والضياع. 

هذه هي ثيمة الرواية بالمختصر التي قدمها لنا الكاتب بطريقة غرائبيَّة بعد أن نقل لنا الفاجع والمدهش بصورة أقرب إلى الفنطازيا. 

يعتمد الكاتب في هذه الرواية على الحالة الغرائبيَّة المتخيلة ليحاول إسقاطها على الواقع الافتراضي (خيال غرائبي/ خيال نتاج الفوضى) معتمداً على آليَّة سرد (أنا الكاتب) في جميع مفاصل الرواية، مبتعداً بذات الوقت عن الجانب الحواري وعن استنطاق الشخصية (مناجاة النفس) بعد أن اختار الكاتب ثلاث شخصيات رئيسية معتمدة في الرواية، فياض السقا/ الذي جاء اسمه ملائما جدا لحدث شح المياه وشخصية الحاج بدر الذي لم يحج ولم يعتمر ابدا حسب توصيف الكاتب، وكذلك شخصية/ سنا وهي شخصية نسوية، لذلك اصبح اغلب الحوار (المختصر) ينقل أحيانا عن طريق (أنا الكاتب) حتى اصبحت سمة الإيغال بالسرد واضحة تماما مع تكرار وإعادة توصيفات سردية عديدة تخص الأحداث في العديد من فصول الرواية بعد أن ذكّر بها الكاتب لأكثر من مرة، فكان لزاما على الكاتب أن يتكئَ على النسق التصاعدي للحدث الذي شكل معادلا موضوعيا تحسبا من الوقوع في رتابة سردية (شح المياه/ نزوح الاهالي ونصب مخيمات لهم/ انبثاق احزاب عشائرية – حزب الارواء الوطني الذي غير اسمه لاحقا الى حزب الإسناد العشائري/ اكتشاف هياكل عظمية/ تظاهرات/ اقتتال 

عشائري). 

ورغم الإيغال السردي الذي اشرنا اليه في اعلاه لكن الكاتب نجح في عدم الانزلاق نحو رؤية تحليلية خاصة لمجريات الاحداث فقد ترك (أنا الكاتب الغائب) هو من يقود سرد الأحداث باستثناء اثارة بعض الاسئلة وتقديم اجوبة لها حيث دخول الكاتب في الرواية وهذا أسلوب حداثوي معمول به في العديد من الروايات العالمية. 

فحوى الرواية تشير إلى العقل المتراجع والمتخلف النفعي الذي يحاول التسلّق على اكتاف الفجيعة وعلى اكتاف المحرومين والمضطهدين بعد أن اشار الكاتب إلى الغرائبي والفوضى الناتجة في عالم مشخص ومرتبك حيث الإنفلات وعدم السيطرة في الحالات الصعبة التي تواجهه، فكانت النتيجة هي الفوضى العارمة واختلال الأسس، وكأن الرواية تطلق جملة من المحاذير أمام حالة من حالات الضياع والكارثة جوار عقليَّة لا تفقه أي شيء في إدارة الحياة. 

إنَّ من يقرأ رواية (إلى المزاح أقرب) يخيل له أنها عبارة عن مسدس ماء يتحول في لحظة حلمية وغرائبية الى مسدس حقيقي يفجع الآخر، الآخر الذي جاء ليرتشف قطرة ماء من قيعان أنهر متيبّسة بعد ان تحول الماء من سر الحياة الى سر الموت، أو ذلك الذي يحاول العبث في منابع النفط الذي يريد أن يجعل منه مزادا عشائريا لتهريبه وبيعه مقابل منافعه الشخصية، فالرواية هنا عبرت أيضا عن المتناقض وعن كوميديا سوداء ضاجة بالألم وحالة ادهاش غريبة تتملك القارئ وهو يشاهد الصراع الذي لا ينتهي إلا بنهاية الجميع بعد ان غابت وضاعت الهوية/ هوية الدولة، فقد صار لكل جماعة هوية خاصة بهم ومحددة في الخيام المنصوبة على ضفتي النهر تحدد نوعه وهويته ككيان مستقل 

بحد ذاته. 

إنَّ الأحداث الدرامية وطبيعة اللغة التي جاءت منسجمة تماما مع تلك الأحداث هي من شكلت تفاصيل الرواية وصعدت من محتواها الفني كون السرد جاء منقسما، فهناك سرد يمثل وقوع الحدث وسرد آخر يمثل توصيف نتيجة الحدث، وبالنتيجة النهائية كانت الأحداث المسرودة تشكل معادلا موضوعيا للسرد كما اشرنا في اعلاه بغية تقليل شدة الإسهاب السردي ذاته. 

الهدف من الرواية ليس شح المياه بمعناه الحقيقي أو الافتراضي وما تلاه من أحداث، لأنَّ شح المياه لم يشكل ظاهرة واسعة بالعراق، بل حالة معينة نسبية، وكذلك الأمر ينعكس على حالات نسبية من التصحر وليس تصحرا كاملا بمعنى الظاهرة، لذا فإن الهدف الحقيقي الذي يكمن خلف هذه الرواية هو سلاح المياه الذي يعتبر اكثر خطرا من النفط. 

وكذلك انتقاد واضح وصريح للعقلية العشائرية الخاوية التي لا تفقه شيئا في ادارة المرتكزات الأساسية للحياة كونها تظهر وجودها كديكور شكلي تغري به فرد المجتمع الذي يقدم ولاءه بطريقة مطلقة تجاه عشيرته، لذلك جاءت الرواية لتقدم لنا أنموذجا تخيليا من خلال نظرة مستقبلية لبلادة هذا العقل واعطاء رسالة تحذيرية من قيادة تلك العقول المتراجعة في حال تسلطها على المجتمع. 

عمد الكاتب إلى تهميش شخصياته من الناحية الفنية، والسبب هو أن مثل هكذا شخصيات جاءت من الهامش المجتمعي أساسا وكانت سببا واضحا باندلاع الفوضى العارمة. فتهميش الشخصيات يعطي انطباعا للقارئ بأن لا وجود لمثل هكذا طفيليات حتى في المجال الفني المسرود ويحصر مجال هذه الشخصيات فقط بفاعليتها في الحدث ذاته. 

بالنتيجة النهائية قدم لنا الكاتب في هذه الرواية صورة واضحة ورؤية تخيلية ورصدا مستقبليا لنتاج عقلي معين قد يكون سببا في أحداث فوضوية كبيرة.