أبطال دوستويفسكي الأحياء بين الجنون ورجاحة العقل

ثقافة 2023/04/25
...

  أويس الحبش 

إذا كانت النفس البشرية ما يثير اهتمامنا وإذا أردنا نفهمها، وأن نعرف ما هو إنساني و روحي فيها، فما لنا إلا دوستويفسكي، الذي أسماه الأديب الهولندي شتيفان تسفايغ «سيد علماء النفس»، وأيضا كتب فيه نيتشه عالم النفس الألماني» كان لدوستويفسكي نظرته الخاصة والبعيدة عن السطحية في ما يتعلق بالإنسان». يصعب فهم ما كتبه دوستويفسكي، خصوصا للقارئ العادي، الذي اعتاد على قراءة ما هو سهل وواضح الشرح. فما استطاع القارئ أن يتقبل الكاتب الذي نزع صفة الراحة عن الحياة وأبدلها بالرعب وصراع الذات، الذي عاش به أبطال رواياته.

فمن منا يستطيع أن يعترف بأنه يستمتع «بالعذاب والخوف»؟ أو إنه « يلقى متعته في الاعتزال في زاوية القبو لجلد الذات» ويعيش بفوضى العقل المرعبة؟

إن ما اكتشفه علماء النفس في القرن التاسع عشر في المختبرات والقاعات الجامعية، بما يتعلق بالنفس البشرية كان قد رآه دوستويفسكي واكتشفه، ولكن في معاناة الحياة التي لا تنتهي، وكما قال نيتشه متأثرا بدوستويفسكي « لا تكتسب الروح عند الولادة، بل نكتسبها خلال رحلتنا من خلال الألم

والمعاناة».

إن الظروف التي عاش بها أبطال دوستويفسكي كانت مألوفةً في أيامه، فتلقت رواياته شهرة وإقبالا واسعين، بين عامة الناس خصوصا، فما برحت حتى قل الاهتمام بها في عصر السوفييت، فبتغيير ظروف الحياة للإنسان تغير معها الاهتمام، فبنشر المساواة وتحسن المعيشة ابتعد المواطن السوفييتي عن أعمال دوستويفسكي، ووصفها بالتشاؤمية. أما بعيدا عن روسيا فقد زاد الاهتمام بأعمال الكاتب، بسبب زيادة الإهتمام بعلوم النفس وفي ما يتعلق بها، فأصبحت أعمال الكاتب الروسي أُساسًا لدراسة النفس البشرية.نجح دوستويفسكي في إظهار الإنسان بطبيعته الحقيقية، بعيداً عن المثالية وخارج حدود الحضارة، بدون أقنعة أو تجميل للواقع، فهذه ليست فقط رؤيته الخاصة، ولا يحمّل عليها ذنب رفضنا للحقيقة التي أظهرها لنا، وكما قال بعبقرية «نحن نحب الكذب الذي يرفع من شأننا».

يرى دوستويفسكي أن جمال وكرامة الطبيعة البشرية ليست فقط في ظواهر الحياة الملموسة، بل أيضا في تلك المقامات التي نشأت منها، وأن فسادها أمر لا مفر منه، ولكنها تعود وتشفى لتُصلح إذا ما حُفظت، ولم يرضخ الإنسان لغروره وقذارة فساده، وبالتالي سيندفع ويحاول مراراً وتكراراً أن يطهر نفسه ويحافظ على روحه.


لكل منا قبوه الخاص

إن لرواية الإنسان الصرصار أو رسائل من القبو نكهتها الخاصة بهذا الموضوع، فبطل الرواية الذي يسكن في زاوية قبوه تحت الأرض والمتعب من الحياة ويكره ويكرهه الجميع، تبدأ بوصف البطل الذي وبشكل مثير لم يذكر اِسمه في المذكرات، لأنه لم يجد داعيا،  ليِعُرِفَ اِسمه. «ليس بالأمر الجلل» هكذا قال. يبدأ دوستويفسكي بوصف البطل في القسم الأول ثم يعرض أفكارًا وفسلفة تلك الشخصية، وما هي الأحداث التي خاضها، لينتهي به الأمر معتزلاً في قبوه، تلك الشخصية المريضة التي تنقضُ نفسها فتراه سلبياً كارهاً وباغضاً، ولكنه يبحث عن «كل ما  هو جميل وخير»، وعرض دوستويفسكي بطله بشخصية ذكية ومثقفة، وعلى الرغم من هذا الذكاء المتقض فإنه لا يعرف نفسه، ولم يتقبلها، فقالها بوضوح «أنا لست طيباً ولا شريرا، فلم أستطع أن أكون شيئاً».

لم يرد أن يُظهر لنا الكاتب شخصيته بأنها متناقضة، بل أراد أن يُظهر لنا ما يفعله الصراع الداخلي بالروح البشرية وما يفعله الغرور، إذا لم يضبط ويحكم، وإلا سيتنهي بك الحال في قبوك الخاص.

إن قبو دوستويفسكي هو مصدر صراعاتك الداخلية، يبدأ من دوافع ذات جانب واحد ومواجهات مستمرة، وليست صراعا بين طرفين، لذلك جميع أبطال دوستويفسكي يجرون حوارات فردية مع أنفسهم باستمرار، ودائما ما يغيرون مواقفهم في هذه النزاعات، وينقضون باستمرار وجهات نظرهم الخاصة، كما لو أن هدفهم هو أن يدفع نفسه داخل الوحل ليتشتت ويضيع. 

هذه هي ميزة دوستويفسكي في علم النفس، فما أن تقرأ كتابه وتتعرف على البطل الرئيس، وتفهم شخصيته، حتى تتفاجأ بـأنه يملك شخصية أخرى معاكسة، يحارب نفسه بها حتى يَهلك فتصبح أبسط الأمور في حياته معقدة، فيضيع بها كما لو أنه يسمع رأيين بكل خطوة يخطو بها  فيشعر بالثقة وعدم اليقين في الوقت

نفسه.