الحزام الأخضر

الصفحة الاخيرة 2019/04/19
...

حسن العاني 
مع دخول العالم القرن العشرين، أخذت سمة التطور بالتسارع وكأنها في سباقٍ محمومٍ، حتى بلغ الأمر كما تشير الدوائر المعنية بالأرقام والإحصائيات، أنَّ كل ثانية تمرُّ على البشريَّة، تحمل معها شيئاً جديداً، سواء كان اختراعاً او اكتشافاً او ابتكاراً، أم كان تطويراً لمخترعات وابتكارات قائمة، ورافق هذا الهوس المجنون هوسٌ مماثلٌ في الطروحات الفلسفيَّة والفكريَّة والأدبيَّة والفنيَّة.
بالطبع ما كان لتلك التطورات "العلمية"، خاصة في ميدان الصناعة المدنية والصناعة العسكرية (بهدف السيطرة على الكرة الأرضيَّة اقتصادياً وعسكرياً)، أنْ تمر من دون أضرار جانبيَّة بالغة الخطورة، ربما كانت التغيرات المناخية في مقدمتها، والتي لمسنا بعض متاعبها كالزلازل والفيضانات والتسوناميات والأعاصير، ولم يكن الخبر الذي نشرته وسائل الإعلام قبل بضع سنوات حول  تعرض العراق في القريب العاجل الى عواصف ترابية تستمر قرابة (300) يوم في السنة، بمعزل عن تلك التغيرات المناخية.. ومعلومٌ بأنَّ البلاد تعاني من هذه العواصف وتأثيراتها منذ عدة عقود عندما بدأت أوسع عملية اجتثاث للبساتين والمناطق الخضر المحيطة بالعاصمة وعموم مراكز المدن، لجملة أسباب ليس هذا مجال الخوض في تفاصيلها، من دون التفكير بإنشاء مساحات خضر بديلة...
إذا لم تخذلني الذاكرة، فإنَّ العالِمَ العراقي الجليل، الدكتور عبدالجبار عبدالله، رحمه الله، قد فطن مبكراً الى هذه المعضلة، فكان أول من طرح فكرة ما بات يعرف باسم (الحزام الأخضر) حول بغداد، وقدّم دراسة مفصلة تناولت الجدوى البيئية والصحية والاقتصادية لهذا الحزام الذي يساعد بنسبة عالية جداً على امتصاص الغبار والأتربة التي تطال بغداد في أيام متفرقة من السنة، ويكون أذاها شديداً على المصابين بأمراض الجهاز التنفسي، زيادة على الأذى الكبير الذي يلحق بالمياه والزروع والحياة العامة، ناهيك عن كون (غابات الأشجار) التي تعدُّ عصب الحزام الأخضر، تمثل ثروة اقتصادية هائلة للبلد... ولكن المؤسف ان هذه الفكرة او الدراسة العلمية التي قدمها الدكتور عبدالله قبل أكثر من ستين سنة لم يلتفت إليها أحدٌ، او ينظر ليها ولو بقليل من الجديَّة..
في ثمانينيات القرن الماضي، تبنت الدولة فكرة الحزام الأخضر، وبغض النظر عن نسبتها الى صاحبها الأصلي وبغض النظر عن اسمها الجديد وتفاصيلها، فقد لجأت الدولة على عادتها في تلك المرحلة الى وسائل الإعلام لكي تقيم الدنيا ولا تقعدها، وهي تغطي مشروع الحزام بكل ما يتعلق به، بدءاً من طوله وعرضه ومراحله وأماكن إقامته، مروراً بعدد الأشجار وأنواعها وكلفة الإنجاز، وانتهاءً بالجهات المنفذة وقبل ذلك بالتأكيد توجيهات القائد... و.. وسقط القائد ولم ينجز المشروع ولم تقم له قائمة ولا إشارة ولا دلالة، وهذه واحدة من أعظم خطايا النظام الدكتاتوري، فلو تمّ تسوير العراق والعاصمة بالخضرة والغابات وأشجار الزيتون، لما أقدمت أميركا على احتلال بغداد وأبدلت حزامها بالمنطقة الخضراء في قلب العاصمة، فمنذ قيام المنطقة لم تعد العواصف الرمليَّة موسمية أو تزورنا 300 يوم في العام، بل أصبحت تهب على مدى 366 يوماً، وكأنّ سنواتنا جميعها أصبحت سنوات كبيسة!!