مزاج المترجم لا الشاعر

ثقافة 2023/04/29
...

 عادل الصويري

رغم أن الموضوع يحتاج إلى التخصص الدقيق، إلا أن ذلك لا يمنع الكلام حول واقع موجود، داخل في صلب العمليَّة الإبداعيَّة. الكلام هنا عن الترجمة، هل أصبحت اليوم فعلا خلاقاً؟ هل يقدم لنا هذا الفعل المادة المترجمة فعلا أم ظلالها؟ . وإذا قلنا إن هناك ترجمات رائعة قدمت لنا بعض الأعمال الأدبيَّة الخالدة، سواء في الماضي، أو اليوم، هل يكفي الاحتفاء بهذه القلة؛ لتعميم احتفاء كبير وشاسع بالترجمة؟

التاريخ الأدبي يحدثنا أنَّ العبث بالمادة الأدبيَّة بدأ أواخر القرن التاسع عشر، مع إطلاق أعذار تبرر هذا التصرف بالمادة، منها تبسيط المادة للقارئ، أو اختصارها بما يلائم الذائقة العربية الميّالة للاختزال.

ولنفترض أننا سلّمنا لهذه الأعذار لما يتعلق بالأعمال التي تتعاطى مع الفكر، فيبدو من المستحيل التسليم لها حين يتعلق الأمر بالشعر وترجمته.

لستُ أنحاز هنا إلى قول الجاحظ في كتابه (الحيوان): "الشعر حكمة العرب لا يجوز عليه النقل إلى لغةٍ أخرى، ومتى حوّل تقطع نظمه وبطل وزنه وسقط موضع التعجب". 

فهذا كلامٌ يختصر العالمية الجمالية للشعر بقومية بليدة، من المضحك الإيمان بها والتسليم لمنطقها، خصوصاً في مقولة (بطلان الوزن)، وكأنَّ هذا البطلان يمثل وضع الشعر في تابوت نهايته.

ثم أن عدم معرفة الجاحظ بأي لغة غير العربية، لا يبرر له مثل هذا التنظير.

أبداً، لا أنحاز لهذا المنطق في نقدي لترجمة الشعر، بل أنحاز إلى جمالية الرؤية، وخيالات مبدعها، وقصديتها، وما تقدمه من قراءة أخرى مغايرة. 

هذه الرؤية قد تتشظى لمجرد أنها نُقِلت إلى لغة أخرى، لا تنسجم قواعدها مع هذه الرؤية، فيبدأ اشتغال اللا أمانة الذي يفرضه مزاج المترجم المنسجم مع المزاج التجاري الربحي لدور النشر.

لا تكفي المترجم برأيي المعرفة المعجميَّة، لنقل مادة أدبيَّة من لغةٍ إلى أخرى، بل يلزم الاندماج الكامل مع حياة اللغة التي ينقلها، ومعرفة تفاصيل من يتحدثون بها، ولا أبالغ إن قلت معرفة تعابير وجوههم لحظة قول هذه الجملة أو تلك - حتى وإن اعتُبِرتُ مثالياً- لأن هذه التفاصيل تجعل نسبة الأمانة والمصداقيَّة في النقل أعلى.

الشعر عالمٌ من الإحالات بين الواقع والمتخيّل، عالمٌ من التنقل بين جغرافية التراثات الإنسانية، وليس من المنطق أن يأتي شخص فقط (يعرف لغة) ليكون مترجماً عنها بهذه 

البساطة.

والسؤال الأكثر أهمية في ترجمة الشعر هو: هل نترجم لغة الشعر المتجاورة مع تفاصيل الحدث اليومي، أم تلك اللغة ذات المستويات البيانية والمجازية؟ ثم كيف تُترجم موسيقى الكلمات خارجية كانت أم داخلية؟

ربما نجزم بصعوبة ترجمة الشعر المنتمي لخصوصية ثقافية معينة، والذي يفرض سياقه في بعض الأحيان اندكاكاً لغوياً باللهجة المحكية، أو ما يماثل معناها 

لغوياً. 

تلك الخصوصية التي لن يتمكن من معرفة أبعادها ذلك العارف المعجمي.

وأظنه سيواجه صعوبة بالغة لو أراد ترجمة جملة بدر شاكر السياب التي وظَّف فيها شعر المحكية العراقي من لون الدارمي الشعبي: (نجمة صبح يهواي واسكط على غطاك ... وبحجة البردان أتلفلف اوياك) وحوَّلها في مقطع (ليلة في باريس) من قصيدته (ليالي السهاد) من المحكية إلى الفصحى بقوله: "يا ليتني نجمُ الصباحْ ... آهٍ لأسقطَ يا حبيبي إذ تنامُ على الغطاء، أعْتَلُّ بالبردِ : ارتجفتُ، فلفَّني بردُ الهواء".

تبدو الجملة بالفصيح قابلة للترجمة، لكن ماذا عن بدر؟ وعن المضمر الذي حرّكه لاستعارة هذا المقطع المحكي؟ من سيوصله إلى القارئ؟ نعم، ستُتَرجم الجملة، لكن وفق المزاج المعجمي للمترجم، لا مزاج الشاعر، وسلطة مخياله، ولحظته التي أجبرته على هذه الاستعارة الشفيفة من موروثه الشعبي.

الأمر الذي يحتاج مترجماً شاعراً عارفاً بأسرار الشكل والمضمون معاً، وهذا ما لن يتحقق حتى مع ترجمة الجملة؛ لأن الترجمة أغفلت الجوهر الفطري لها، الجوهر الذي يمثل أعلى مراتب الشعرية.

هذا الجوهر هو اصوات وإيقاعات غير مرئية تنسجم فيما بينهما مكونةً نسيجاً جمالياً عالياً، من الصعب إدراكه وفهم قصدياته، حتى وإن تمت ترجمته من مبدعي الترجمة، فالاختلاف سيحصل لا محالة، كما حصل مثلاً في ترجمة قصيدة لوركا (الحزن الأسود)، حيث ترجم عبد الغفار مكاوي: (معاول الطيور تحفر باحثة عن الفجر عندما تهبط سوليداد على الجبل الأسود).

بينما ترجم محمود مكي المقطع نفسه هكذا: (مناقير الديكة تحفر في الأرض باحثة عن الفجر، وسوليداد تهبط على سفح الجبل المظلم).. وهذا ما جعل خيري منصور يسأل: أين المعاول من المناقير؟ 

وأين الطيور من الديكة؟

وأين الجبل الأسود من سفح الجبل المظلم؟