نيقولاي برديائف: سيمياء العالم الباطني والروح الخالقة

ثقافة 2023/04/29
...

 أوس حسن

لم يحظ الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائف بالمكانة التي حظي بها أقطاب الفلسفة الوجودية؛ كهايدغر، وسارتر، وكيركيغورد، ولم تسلط الأضواء على أفكاره العميقة بطريقة كافية؛ ربما بسبب ضبابيَّة عدد من مفاهيمه التي تتجه إلى أن تكون شفرات ورموزا لفك المجاهيل المستعصية في النفس البشريَّة، لكن قراءة برديائف وفهمه تتطلب من المتأمل قراءة حدسيَّة ذاتية ضمن التصور الإنساني لرؤية العالم، وعلاقة هذا العالم بوجداننا وأعماقنا الخفية.

 فالأنا والشخصية عند برديائف هما عالم قائم بذاته، عالم يخلق المعنى ويصل بمصير الإنسان إلى حدوده القصوى، ومن هنا يؤكد برديائف على ذاتية الفيلسوف وتجربته الخاصة؛ فالفلسفة يجب أن تحمل شخصية الفيلسوف الذي أبدعها، وفي اختياره لنمط أو لآخر من أنماط الفلسفة.

لكن الفلسفة الحقيقيَّة تكمن وراءها رغبة مضنية لتحقيق المعنى في عالم يعتريه التفكك والتحلل، لذا يعمل الفيلسوف على تحرير الإنسان من نزعة وجوده الذي يتسم بالنقص، وأن يعكس صورة الوجود الأعلى الكامنة فيه. ومن هذا المنطلق يجب أن تكون الفلسفة إنسانية طالما أن معرفتها بالوجود مستمدة من الإنسان.

يؤكد برديائف على العالم الداخلي عند الفرد، وعلى وجود طبقات مستترة خلف عالم الظواهر والأشكال، ويرى أن الاستبصار والرؤى تمنحان الفيلسوف الكشف والإبداع، فحتى الفلسفات التي صنفت على أنها موضوعية أو علمية لم تخلُ من نشوة عاطفيَّة أو نزعة صوفيَّة. إن العالم الموضوعي عند برديائف يعبّر عن درجة معينة من الحقيقة، وعلى حالة من الوجود، ويكون نتيجة لنشاط الذات الخالقة. 

أما العنصر الفعّال الذي يكشف عن المعنى في ميدان العلم الطبيعي، والعلم الروحي فهو الحدس الذي يُعد ماهية النشاط الخلّاق في أعماق المعرفة، وهو انبثاق المعنى من مناطق الوجود المظلمة.  


 المعرفة الباطنة والذات العارفة

قامت نظرية المعرفة دائماً على أساس التضاد القائم بين الذات والموضوع، لكن المعرفة عند برديائف ترفض أن يكون الإنسان من معطيات العالم الخارجي، فالإنسان هو الروح المحققة لنفسها في الطبيعة، وهو التعبير المباشر عن صدمة الروح لطبيعة الإنسان الجسديَّة، لذلك يجب أن تكون الذات والوجود شيئاً واحداً، والإنسان يعجز عن فهم الحياة فهماً عقلياً موضوعياً، لأن الموضوع لا يمكن أن يكون له معنى إلا بما تضفيه عليه الذات الروحيّة، فكل معنى لا يُكشف إلا داخل الأنا، ولا يقاس إلا بمقياس الأنا؛ فالمعرفة عند برديائف تصهر الذات والموضوع في نظام الروح الخالقة، والكاشفة عن المعاني، أما المعرفة فهي حدسيَّة وذات صفة علائقية بين الأنا والذوات الأخرى، وبين الأنا والأشياء في العالم الخارجي.

كذلك فإنَّ الإحالات الموضوعيَّة المقتصرة على تفسير الظواهر العلميَّة، لا تنفصل عن الاتصال الروحي للذات العارفة، لكن المعرفة يجب أن تعلو على الإحالات الموضوعية، وأن تستبطن أغوار الوجود، فالمعرفة باطنة قبل كل شيء ولا يمكنها أن تخضع لتفسيرات العقل والمنطق، ولا يمكنها أن تكون اجتماعية أيضاً.

لكن كيف يمكن للإنسان ان يحقق التواصل مع الوجود الباطني؟ 

يشير برديائف إلى شبكة أسرار لا يمكن التماسها إلا بالنهج الغنوصي، وما توفره لنا المخيلة من رموز واستعارات، فهناك في أعماق الوجود منطقة لا يمكن أن تصلها المعرفة، ولكن يمكن أن تنيرها، والمعرفة لا تعكس أو تصور، بل وظيفتها أن تبدع وأن تكون خالقة. 

ويرى برديائف أن أي لون من ألوان الوجود فيه أعماق شاسعة ولا تنفذ إليه الذات إلا بالعلو، ويسمي برديائف هذه الذات بالذات العارفة. 

إنَّ الذات العارفة صفتها وجودية بالدرجة الأساس وذاتيتها المتطرفة ليست زائفة أو مضادة للحقيقة، بل ربما تصل إلى الحد الأقصى من الحقيقة، والذات العارفة هي نشاط خلّاق يعمل على إقامة العلاقة بين المعرفة كأداة للمجتمع الموضوعي، وبين المعرفة كوسيلة لتحقيق الاتصال الروحي الوجودي.

لا ينكر بيرديائف نظريات العلم ولا العالم الموضوعي القائم على القوانين العقلية والاستنتاجات المنطقية، لكنه أراد أن تكون هناك معرفة شاملة لكل المعارف العقلية والإدراكية والروحية، بحيث تصبح تلك المعرفة موحدة تستطيع أن تنقل الإنسان خارج التقسيم الزماني والمكاني وإلى بُعد آخر من وجودنا المادي والمحسوس. 


الأنا والعزلة

يُعرّف برديائف الأنا بأنها بدائية ولا يمكن أن تستند إلى شيء أو تحيل إلى شيء، وهذه البدائية عند الأنا ضاربة جذورها في الوجود، والوعي كامن فيها مثل اللاوعي تماماً.

والأنا هي الوحدة القائمة بماهيتها رغم العالم المتغير، وهي القادرة على الاحتفاظ بذاتيتها رغم الألم المرتبط بالوعي الذاتي، والأنا تتهددها العزلة والشقاء بسبب قوانين العالم الموضوعي، وخضوعها للتغييرات الجزئية داخل الزمن، وتنبع المعاناة من الأنا عندما تدرك وجودها المادي والفاني.  الأنا عالم قائم بحد ذاته، وهي فريدة ومميزة، وتعد حياة الإنسان تعبيراً عن الأنا في علاقته التي تفترض وجود الآخرين، والعالم ووجود الله. لا يدرك الإنسان أصالته وتفرده، إلا عندما يكون وحيداً؛ فالوحدة في العزلة تكشف عن كل ما هو جوهري وأصيل في الإنسان، والعزلة هنا ليست تلك القطيعة المتطرفة عن الإنسانية، لكن العزلة بوصفها ظاهرة اجتماعية، والتي تنشأ نتيجة الضغط الذي يفرضه العالم الخارجي على الشخصية لتحويلها إلى موضوع. فتصبح العزلة ملاذاً للاتصال الروحي الوجداني بين الإنسان وذاته، أو بينه وبين الحيوانات ومظاهر الطبيعة كالجبال والأنهار والغابات، والتي يستطيع الإنسان أن يقيم معها ذلك الرابط الروحي؛ أن يحبها ويناجيها في سره ويتعلق بها. كذلك الحال مع الله الذي يتجلى في الأشياء وفي العالم الباطني عند الإنسان، وبهذا تتحول المواضيع إلى ذوات واعية، ما يفضي بالمتأمل إلى  رؤية الكائنات و الوجود برمته باعتباره أنا وأنت، وليس مجرد أشياء ومواضيع. إنَّ المعرفة الباطنية التي تخلقها العزلة؛ تجعل الإنسان يحفر في أعماق الوجود لينير ظلمته، وتهيئ له القدرة على معايشة الانفعالات العارمة، فالحياة التي تضفي على الفرد شعوراً بالأبدية؛ تمنحه نبوءة العظماء والقديسين؛ لأنَّ ذاته العارفة قد بلغت حريتها القصوى وتاخمت حدود الأبديَّة في الزمان.


المجتمع والاتصال الروحي 

إنَّ الإنسان الذي تنضج في أعماقه الحياة الروحية يتوق إلى الخروج من عزلته، ليدخل في اتصال روحي مع أنا أخرى، والأنا الأصيلة تكشف عن نفسها في عزلتها، فتبحث عن انعكاس صورتها في مرآة الذوات الأخرى التي

تشبهها.

ليس من السهل على الإنسان الذي عانى في عزلته، أن يجد ذواتاً تشاركه المخيلة والعاطفة الروحية؛ فالمجتمع مازالت تسيطر عليه النظم العقلانية والمادية، ولكي تتحقق الشخصية يجب أن تكتسب الحرية بخلاصها من كل قيد خارجي، كالدولة، والدين والأيديولوجيا، هنا يدخل الإنسان في حالة من الحذر كي لا يصطدم بآلات اجتماعية تحيا وجوداً ميكانيكياً لا يخلو من التفاهة والصراع المبتذل، عندها يشعر ذلك الذي شيد عالمه الروحي في عزلته بأنه في عزلة تبعث على الحزن والاكتئاب الشديد، فينشأ الاغتراب بينه وبين الآخرين، ويتعمق انفصاله أكثر عن المجتمع.

 يفرق بيرديائف بين المشاركة الاجتماعية التي يعتبرها شيئاً واقعياً ويكون اتصالها بالعالم العقلاني الموضوعي، وبين الاتصال الروحي الذي يتم عبر الرموز والمخيلة، وأولى علامات هذا الاتصال يكون عن طريق الإدراك الحدسي للعالم الروحي لأنا أخرى، وهو ما يعادل الاتصال الروحي بها. 

إنَّ بعض الملامح التي نراها في بعض الأشخاص والتعبير الذي نلمحه في أعينهم، هو بمثابة كشف روحي لأعماقهم. ونستطيع أن نستمد معرفتنا وإدراكنا لحياة شخص من الذي يحاول أن يخفيه عن نفسه لا بالذي يبوح به، وقد يكون الحب إحدى الطرق الوجدانية التعاطفية التي تنشأ عن طريق الإدراك لحياة الآخر الروحية.

عندما يكون الحب ناتجاً من الاتصال الروحي، فإنه يصبح أقوى من سلطان الموت، والانتصار على الموت يعني الاعتراف بسره وانجلاء كل خوف منه، فالحب كما يقول برديائف هو حلول مملكة الله في الجسد، والانتقال إلى بعد آخر من الوجود يتميز عن العالم ويعلو 

عليه.


الزمان والحاضر الأبدي 

يصبح الوجود برمته زمانياً عندما نعاني ونقلق، وعلى هيئة الزمان نعاني مصيرنا، فالفلسفة الوجودية تفسر الزمان على أنه مشكلة المصير الإنساني كما يذهب بيرديائف.  

 يوجد الزمان لأن هناك نشاطاً ما وفعلاً خالقاً، فالتغيير هو الذي يجلب الزمان وليس العكس. 

 أما الزمان في العالم الموضوعي هو مصدر البؤس عند الإنسان، لأنه مرتبط بالموت والتحلل والفناء، لكن الذاكرة وحدها من تستطيع أن تدرك سر الزمان، وأن تثبت تناقضاته في اللحظة التي يصبح فيها نوعاً من الأبدية الممزقة، وهذه الأبدية تملك حاضرها المستمر في الذاكرة، فهناك حاضر الماضي، وحاضر الحاضر، وحاضر المستقبل.

إنَّ عوالم الإنسان الداخلية تتحكم فيها غرائز الإبداع، والحرية المقترنة بالنشاط الروحي؛ فأفعال الروح هي من تولد الزمان، والماضي الذي يعيش في ذاكرة الحاضر ماضٍ مختلف تماماً، وليس مجرد بعث للماضي، إنما هو تجديد خلّاق وتحويل مبدع تم إدخاله في حاضرنا، لأنه تسامى فوق زمانيته وتجاوزها، فالماضي الذي لم يوجد في الذاكرة، كأنه لم يحدث أصلاً ولم يُخلق في حياتنا، لذا لا يمكننا التعامل معه لأنه يكتسب صفة العدم أو 

اللاوجود. 

هناك لحظات امتلاء ومعنى تنيرها الذاكرة لأجزاء من حياة الإنسان المنعزلة، وتساعده أن يحيا رؤاه الداخلية، وأن يسمو فوق آلامه.                                                          إنَّ الروح بنشاطها الخلّاق تستطيع أن تعلو على الزمان، وأن تجعل الأبدية حاضرة فيه، من خلال قوة اللحظة الراهنة، فلا شيء سوى هذا الحاضر الأبدي الذي يربطنا بنقاط الزمان الثلاث، واللحظة الراهنة هي شعاع من الأبدية ينجلي أمام الذات، وينكشف من ظلمة الوجود وأعماقه السحيقة.