{الإنسان العاقل} يخيّط الملابس منذ 40 ألف عام

بانوراما 2023/04/29
...

  ميجيل أنخيل كريادو 

  ترجمة: ليندا أدور

منذ 39 ألفا و600 عام مضت، كان الطقس في أوروبا شديد البرودة. إذ وصلت الأنهار الجليدية الى حدود ساحل البرتغال، في الوقت الذي كان مناخ سيبيريا يسيطر على كامل شبه الجزيرة الايبيرية، التي كان يجوبها الماموث الوبري. 

كان العصر الجليدي الأخير يقترب من ذروته عندما بدأت مجموعات من «الإنسان الحديث العاقل (هوموسابينز- Homo sapiens)، بالوصول الى هذا الجزء من أوروبا، ليبدأ إنسان النياندرتال بالانزواء ، وما ساعدهم في تحقيق ذلك هو ارتداؤهم الملابس الضيقة المصنوعة من الجلود.

في أحد المواقع القريبة من مدينة برشلونة، حدد علماء الآثار أداة عظمية كانت تستخدم لثقب وخياطة الجلود، ففي دراسة حديثة نشرت مؤخرا، يقول مونتسيرات سانز، عالم الآثار لدى جامعة برشلونة: “كنا قد حددناها على أرض الواقع، فقد كانت تحمل سلسلة من العلامات التي لم تكن لأسنان آكلة اللحوم أو شقوق أو أشياء مألوفة أخرى”. في العام 2007، كان سانز وزملاؤه، يقومون بأعمال تنقيب في حفرة حصى تقع في كانيارز، موقع ساحلي يعود لأوائل العصر الحجري القديم (الباليوثي) العلوي بمنطقة كتالونيا الإسبانية، ولكونها تشرف على نهر، كان لا بد لها أن تكون منطقة صيد للضباع والسنوريات، حيث تركز فيها وجود عظام الخيول والبقريات وغيرها من المواشي التي عثر عليها هناك. لكن من بين كل تلك العظام، عثروا على ستة أحجار كوارتز وصوان نحتت بطريقة لا يمكن أن يقوم بها الا بعض من أوائل “البشر الحديث” القادمين من الشرق.


المخرز

في تعليقه على قطعة العظم التي وجدوها الى جانب الحجارة، يرجح سانز بأنه: “ربما كان هناك مخيم قريب، وربما مر منه البشر الحديث (هومو سابينز)، وتركوا العظام فيه”، اذ مكنت التحليلات المجهرية الحديثة وسلسلة التجارب، مكتشفيها من تحديدها على إنها أدوات لخياطة الجلود. وتبدو الأداة غير مكتملة، وهي بعرض بلغ أربعة إنجات، مما عقّد مسألة تحديدها، لكن وفقا لحجمها وشكلها، يرجح بأنها كانت جزءا من عظام فخذ أو فك حيوان كبير الحجم، ربما لحصان أو بقريات. ورغم عدم قدرتهم على تحديد تأريخها بدقة، تمكن العلماء، من خلال بقايا قريبة أخرى، من تحديده، مرجحين أنها ربما تكون قد نحتت قبل نحو أربعين ألف عام، أي أواسط العصر الحجري القديم الأعلى، اذ يأتي هذا التأريخ متلائما مع بدايات الثقافة الاورينياسية، التي حملها البشر الحديث الى معظم أنحاء أوروبا.

عن الثقوب الموجودة في العظمة، يقول سانز: “على أحد الجوانب، هناك عدة مجاميع من الثقوب، لكن الملفت بالأمر، هو سلسلة العلامات المتناسقة على الجانب الآخر، إذ أثارت هذه العلامات المتناسقة والمتوازية والمتساوية اهتمام العلماء في العام 2007،  ليكتشفوا اليوم الغاية منها، “لقد استخدم إنسان العصر الحجري القديم العلوي الإزميل (أو المخرز) لتخريم الجلود، لكن القاعدة التي كان يعمل عليها لم تكن معروفة، واليوم تم اكتشافها”.

للتأكيد بأن هذه العلامات هي من صنع الإنسان وليست نتيجة عشوائية لعضّات الحيوان، كان يجب تأكيد الغرض الذي استخدم من أجله قطعة العظم المحورة، اذ يعتقد البعض بأنها ربما كانت أشياء رمزية أو زخرفية. تدعم الدراسة هذه الاستنتاجات، يقول لوك دويون، خبير في علم آثار العظام لدى جامعة بوردو، بفرنسا، بأن: “التحليل الدقيق للثقوب البالغ عددها 28 في العظام، كشفت عن أنها صنعت باستخدام ذات التقنية لكن عن طريق ست أدوات حجرية مختلفة، على أقل تقدير، ما يعني بأنها استخدمت على مدى فترة زمنية طويلة”. 

كانت عملية صنع الملابس لإنسان العصر الحجري القديم، الذي عاش وسط مناخات باردة، أمر ضروري للبقاء على قيد الحياة. فبحسب دراسات ومسوحات استقصائية بحرية، كانت درجات الحرارة لشبه الجزيرة الايبيرية آنذاك أقرب لدرجات حرارة سيبريا اليوم؛ أكثر من أي بلد متوسطي حاليا. منذ عشرات آلاف السنين، لم يكن متوسط درجة الحرارة في كانيارز، خلال أبرد شهر، يقترب من ثماني درجات مئوية تحت الصفر، مقارنة بمتوسط شتاء اليوم حيث تبلغ خمس درجات مئوية.


التكيف البشري

على نحو تقليدي، ربط علماء الآثار بين الملابس الضيقة (لإبقاء الجسم دافئا) وتقنية استخدام إبرة الخياطة العظمية، ففي الوقت الذي استخدمت فيه الإبر للخياطة في جنوب إفريقيا منذ نحو 73 ألف عام، واستخدمت في سيبيريا والصين منذ نحو 45 ألف عام، كان يعتقد بأنها لم تصل الى أوروبا إلا منذ 26 ألف عام مضت فقط. مع ذلك، تكشف العظام المثقوبة التي عثر عليها عن أن الجلود كانت تخاط في أوروبا منذ نحو 14 ألف عام مبكرا عما كان يعتقد سابقا.

يقول فرانشيسكو دي إنريكو، الباحث لدى مركز الإنسان العاقل الأول لدى جامعة برغن بالنرويج، بأن: “المسألة الأساسية في تكيف الإنسان مع البيئات الباردة هي قدرته على صنع ملابس مخاطة”. ولأجل خياطتها، يجب أن يكون لديه أدوات وطرق مختلفة- كالمتوفرة اليوم- وقد كان ثقب الجلود وتمرير خيوط عبرها هي إحدى وسائلها.  يقول دي إنريكو، “إن القدرة على خرم الجلود لصنع ملابس مخاطة هي نقطة تحول حقيقية في تأريخ التكيف البشري”، اذا ما علمنا أن الإنسان الأول كان عليه خياطة، الى جانب الملابس، الأحذية والحقائب والخيام.

*صحيفة إلبايس الإسبانية