لماذا غدت الثقافة العراقية كسولة جدّاً؟

منصة 2023/04/30
...

  أ.د. سيّار الجميل*

   

في العديد من دول هذا العصر، يتمّ اختيار  وزراء للثقافة والصحة والتربية  والتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا من أكفأ الناس وأذكاهم، إذ يتم ترشيح أبرز المثقفين والعلماء في البلاد، كي يقبل أو يرفض  تقلد هذا المنصب  الذي  يليق باسمه  ومن دون تعيين مستشارين  تراقبه  وتحصي عليه أنفاسه وحركاته وسكناته!   طرحت السؤال عن كسل الثقافة العراقية اليوم أمام نخبة من الأصدقاء المثقفين، وتجاذبنا أطراف حوار متنوع عن انحسار الثقافة ورداءة  التعليم والعلوم في العراق، ولماذا غدت مؤسسات العراق الثقافية والعلمية رخوة أمام العالم؟ فما الذي  خرجنا به من حوارنا؟. 


ثقافة أنظمة أم ثقافة مجتمع؟ 

كانت الإجابات متنوعة للغاية بين من يقبل التوصيف ومن يرفضه، بين من يضع العلة على الأجنبي والمحتل، وبين من يجد الأسباب في دواخلنا! بين من يذهب لأقصى الاتجاه كي يلغى وجود الثقافة والمثقفين  العراقيين، ولا يعترف بوجودهم اليوم وبين من لم يزل يشيد بالعظمة والسمو  وخصب الابداعات بعواطف ساخنة!  دعونا نتوقف اليوم قليلاً عند بعض الآراء من أجل أيجاد قواسم مشتركة لنخبة من المثقفين المبدعين.

تساءل أحدهم: هل المشكلة من سياسات الأنظمة السياسية التي حكمت العراق وقد قيدت الثقافة بالاغلال وكانت بارعة في توظيف المثقفين، وأن كلّ ما ادعته من مبالغات  كان مجرّد دعايات؟

ويتشاءم آخر قائلا: إن شرائح مجتمعنا محبطة، وقد فقدت الأمل بحكامها وزعمائها الذين لم يكن لهم إلا شعاراتهم وسياساتهم وأيديولوجياتهم وكل زعيم يخشى من المثقف اكثر من اية عناصر أخرى في العراق، وغدا الأمر سيان عند الناس، سواء عملوا أم لم يعملوا! هنا تدخلت وقلت: إن الاستقلالات والمواقف الوطنية قد كانت حقيقة تاريخية لأولئك الذين ناضلوا طويلا من أجلها، إن علينا أن نبحث عن أسباب أخرى، ذلك أن مجتمعنا العراقي نفسه قد تحمّل عوامل انسحاقات ثقافية، ومات في رحمه الآلاف من المبدعين.. دخل محاور آخر على الخط ليقول: إن ديغول قال للجزائريين: خذوا استقلالكم واذهبوا للجحيم! ويعقب قائلاً: إن مجتمعاتنا منهمكة بإعادة إنتاج التخلف الثقافي، وأنها تعيش انسدادا تاريخيا لم يمر عليها حتى في  عصور التخلف! هنا دخل أحد المعلقين قائلاً: إن دودة الخشب من الخشب، إن شعوبنا تصنع جلاديها! 


مجتمع بلا مثقفين! 

عاجله آخر ليقول: ليس لدينا مجتمعات بالمفهوم المعاصر، فهي مجتمعات متشظية تحكمها نخب سياسية متخلفة مهووسة بعمليات النهب والتخريب المتواصل  والفرعنة والتسطيح  ولا يهمها  الا  قمع  الاذكياء  وتشريد المبدعين!

عاد الأول ليقول إنه منذ الحرب العالمية الأولى ونحن تجتاحنا الأوبئة الثقافية!  دخل محاور آخر على الخط ليقول: لم تتبلور عندنا "ثقافة"  بالمعنى الصحيح بحيث يمكن مقارنتها مع ثقافات العالم علما بأن العراق كان مملكة لكل المبدعين والشعراء والعلماء والمختصين.

اليوم، كل ما لدينا هو خطاب ثقافي هش ارتبط بتوجهات الطبقات الحاكمة ونفذ برامجها في إشاعة التخلف والتضليل ونشر التفاهات وصناعة اسماء (مثقفين)، لا هم في العير ولا في النفير!  وهذا الخطاب ظلّ مترنحاً بين المفاهيم القومية اليمينية وبين ثرثرة رجال الدين، وكلا الاتجاهين لديهما أفكار منغلقة وكسولة وغير قابلة للنقاش في وقت غدت البشرية تتقدم بمزاوجة وتلاقح الأفكار! أجبته قائلاً: نعم أشاركك التفكير، ولكن اسمح لي أن اعترض على التعميم برغم قبولي أقبل رؤيتك.. إننا لسنا أصفارا على الشمال.. عندنا تاريخ نهضوي  وثقافي عمره أكثر من مئتي سنة، وقد أنجب العديد من الرموز والشعراء والقادة والمفكرين الأكفاء الذين استفاد العالم من بعض آرائهم ومواقفهم.. وليسوا كلهم بعنصريين وشوفينيين متخلفين، هذه الأحكام أجدها صعبة جدا في أن تطلق جزافا من أجل خلط الأوراق، وتضييع الفرص على من قدّم الكثير، وخصوصاً من المستنيرين الممتازين الرائعين بإبداعاتهم ونتاجاتهم ومواقفهم الأدبية والعلمية  والفنية  وحتى السياسية.. أي ليس في خطابهم وحده..!!

انبرى آخر قائلا: إن العرب هم وحدهم الكسالى في المنطقة مقارنة بغيرهم، وأن تاريخ الأمجاد العربية محض هراء! «كذا» قاطعته قائلاً: كلا، ليس العرب لوحدهم كسالى ومنغلقين، بل بالعكس كانوا روّاداً للنهضة في كل المنطقة، وإذا كنت أنت ابن المنطقة، تطلق الأحكام على سجيتك من دون أن تقرأ تلك الابداعات التي كتب عن ادوارها عدد من المستشرقين والمؤرخين، فكيف جعلتها محض هراء؟ واستطردت قائلاً: لا أشك أبدا في قدرة العراقيين فقط، بل ما شهدته ايضا  كل من الثقافتين التركية والإيرانية في تجديد نفسها، ولكن سيطول أمر ذلك لثلاثين سنة قادمة حسب توقعاتي، في حين أن العالم سيمر بتطورات ذكية مذهلة.. نحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً حتى وأن قرأت كل الملايين أفكارنا.. فقرار واحد من حاكم أو نخبة حاكمة تغير كلّ المجتمع وتجعل الثقافة صفرا على الشمال.. وعليه، علينا أن نسعى أن يكون هناك عدة نخب من أناس أذكياء وأكفاء ومتجردين كي يحكموا ، وأن تكون لهم رؤيتهم الخاصة في الثقافة مع احترام المثقفين ورعاية المبدعين، ولكن ضمن انتماء حضاري واحد لا عدة انتماءات تؤثر في كل الحياة. 


المثقف ليس مجرد حامل شهادة عليا!  

سألني أحدهم: وماذا نفعل؟ قلت: صحيح أنه ليست لدينا ثقافة معاصرة كالتي نجدها في الثقافات الأخرى.. ولكنها أصناف في عالم اليوم.. صحيح أن ثقافة العراقيين متشظية وكسولة اليوم عموماً مع  وجود حراكات ممتازة  لدى جيل جديد متطلع، وهو  يطمح أن ينفض كل تكلّسات ما حدث، ولكن لم يستطع كل المخلصين المبدعين العمل من تلقاء أنفسهم، بل تقف حيالهم أجندات وأيديولوجيات وقوى غبية أو أفراد طبقة حاكمة   لا يدركون معنى "الثقافة"، وقد نشرت مقالًا في يوم من الأيام قبل سنوات مضت كان عنوانه "ما معنى الثقافة يا وزير الثقافة؟"  كون  ذاك الوزير لم يفقه عنوان وزارته، خصوصا إن كان صاحب معالي وامور وزارته كلها بيد المستشار والاتباع المجهولين! .. ثقافتنا العراقية كانت متماسكة ومتعايشة ولها قيمها وانفتاحها على العالم في الماضي، ولكنها تبدو اليوم ممزقة ويزداد تخلفها يوما بعد آخر. 

ربما  نجد ملتقيات وتجمعات  ومجلات وحوارات ومنشورات وقراءات شعر وتردد على شارع المتنبي، ولكن  مات الشغف  بقراءة الابداعات، ومات النقد  ورحل النقاد واختفى الصعاليك وصمت الزهاد  وكثرت التشتت في المهاجر..  صحيح  كسّرت الاغلال وحطمت لجان الرقابة  وغاب الرعب، ولكن ضاع الوطن  من خلال البدائل الصعبة، فحلّت الفوضى باسم الثقافة وازداد منح الشهادات العليا كالحلوى للاطفال واختفت المعاني والمفاهيم واختزلت الثقافة بالمسلسلات والولائم وتفاهات الفيسبوك وفيديوهات رجال الدين المثيرة للفتن وغيرها.. وكم كنت أتمنى أن تتحوّل النوادي من خمارات إلى منتديات حقيقية كما هو حال المقاهي، التي كانت في العراق بؤرا سياسية وخلايا نحل تعج بالمثقفين والمناضلين..  

وتمنيت ألا يتم  التجاوز على من يمتلك سمة "مثقف"، وليتخلص  المجتمع من الاشباه والطفيليين والادعياء واشقياء السلطة وعشاق النرجسية.. وكلهم  يقفون في اي عهد سياسي يداهنونه وهم يقفون بوجه المبدعين الحقيقيين..  وكم تمنيت أن تبتعد  المؤسسات الثقافية عن النزعة الطائفية المقيتة، وعن الروح القبلية والشوفينية والجهويات  العفنة..  وكلها  أوبئة  تقف في طريق  أي  حراك نهضوي  ثقافي ابداعي يتسامى، ويسعى ليكون عالميا تحت راية المبدعين الحقيقيين.

انها ثمة عوامل دمرت مجتمعنا وجعلته صاحب ثقافة رخوة لا ثقة فيها وغدت غير منتجة. 

أعتقد أن ثقافة العراقيين قد أطاحت بها عوامل داخلية أكثر من كونها نتاج مؤامرات خارجية؟

وبالرغم من ابداعات فردية أو مناطقية أو مهجرية هنا وهناك في الشعر والتشكيل والرواية، إلا أن ضعفا وخورا أصاب مثلا  المقام العراقي والاغنية العراقية والقصة العراقية والنقد الأدبي والفلسفة وكتابة التاريخ والحوارات.. الخ، إن مجتمعنا العراقي قد أخفى ترسباته وبقاياها التي تتضمن مواريث هائلة من الاحتقانات والأحقاد والكراهية لأسباب تاريخية ومذهبية وطائفية وعرقية وحتى 

ثقافية.. مما ساعد على نخر ثقافته العراقية الأساسية من دواخلها!   

لقد نجح الطفيليون الجدد باختراق ليس المجتمع وحده، بل حتى مؤسسات الدولة! واستطيع القول، إنَّ العراق إن لم ينهض من كبوته فسوف ينتهي أمره  إلى حيث المجهول لخمسين سنة قادمة بفعل ما فسد في حياته الثقافية. 

وإنَّ الأنظمة السياسية هي تعبير أي مجتمع عن وجوده، ومادامت مجتمعاتنا قد تراجعت كثيرا، فلا يمكن الرهان على تغيير الأنظمة، بل أعتقد ينبغي البدء بتغيير المجتمع! ولكن هذا لا يأتي من فراغ بل أنه بحاجة إلى وعى وثقافة تدمج  العراقيين بعيدا عن انتماءاتهم الاجتماعية وتدمجهم في  انتماء وطني واحد، وتلك مهمة صعبة للغاية.  

ثمة رأي آخر يحلل عدة  أسباب اخرى لتأخر ثقافة العراقيين، أولها كونهم أناسا يعيشون الماضي دون أن محاولتهم نسيانه كي يتم التناسب مع الحاضر، كما أنها مجتمعات لا تثق بنفسها وتتعصب لرأى أولياء الأمر فيها! 


اختلال التفكير ازاء التشظي العراقي 

اختتمت الحوار بالقول: إن مسألة مثل هذه لم يتفق فيها المتحاورون على خلاصة موحدة لإشكالية «الموضوع»، فإن هناك أزمة عقل يعيشها أغلب المثقفين الذين يعيشون اضطرابا فكرياً ونفسياً واسع النطاق في خلط أوراق متعددة، بالهروب من الواقع وعدم مواجهته،أو رمى العلل والعوامل على الآخرين من المتآمرين، أو بسبب الاحتلالات الخارجية والتشظيات الداخلية التي خلقتها الانقسامات الاجتماعية. إلخ.. بطبيعة الحال لم يتعرض أحد إلى الثقافة الرخوة.  ولم يسأل أحد نفسه: كيف أكون في المنصب الفلاني وأنا لا أمتلك الحد الأدنى من الثقافة العامة فقط؟  ولماذا تشظت في العراق، وضاعت العديد من المقومات الأساسية على أيدي الأجيال الجديدة، إن المهم في كل هذا وذاك: كيف تسترد مجتمعاتنا حيويتها وإبداعاتها ونشاطاتها وتغدو كما كانت قبل خمسين أو ستين عاما؟

هذا لا يتم إلا من خلال رجال ثقافة ونخب مثقفة لها قوتها المعرفية وانفتاحها الثقافي وابداعاتها  ومصداقيتها ومكانتها في العالم. وبوجود منطلقات  حقيقية يقف على رأسها  مثقفون ومبدعون حقيقيون  ولا يسيرها  اناس من  الفاشلين أو من  سقط المتاع. 


* مؤرخ عراقي