طفلة الحويش التي قد يُهدم بَيتها

منصة 2023/04/30
...

  هدى عبد الحر 


 لا أتذكّر تماما كم كان عمري حينما أفلتُّ يدي الصغيرة من يد أمي وهرعت مسرعة لأدخل إلى أزقة (الحويش) المظلّلة بدفء كثيف وعطر نجفي خاص، لكن من المؤكد لحظتها أنّني كنت أقرأ وأكتب جيدا، إذ أخذت أقلّب الكتب الملوّنة بحثا عن شيءٍ ما في خيالي، بينما اكتفت أمي  بالتفرّج عليَّ وأنا مذهولة لا أشعر بما حولي،  ولأنَّ بيتنا قريب وأمي لا تفارق الزيارة فقد تعاظم إلحاحي  لأرافقها إلى هذه المكان المسحور كلما سنحت الفرصة، حيث أصبح مكاني الدائم وحينما كبرت وأصبح بوسعي الخروج وحيدة لا أظن أنّه مرَّ  شهر إلّا  وأكون  فيه، البحث عن الكتب، الظل الذي يغمرك وأنت تتوحّد مع هدوء الأزقة، ووجوه الكتبيين التي لطول ما تعاملت مع الكتب صارت خبيرة تعرف كل ما يدور حول الكتاب، هذه الأجواء صارت جزءا مني ومن كينونتي. الحويش واحدة من محلات النجف الأربعة القديمة: (البراق والمشراق والعمارة) يرجع تاريخها إلى أكثر من 700 عام، سكنتها الكثير من الأسر، وصارت فترة ما منطقة تجارية وسوقا للبضائع ثم تحولت إلى سوق للكتب منذ نحو مئتي عام. وهي  جزءٌ لا يتجزأ من ذاكرة المدينة الزاخرة التي صنعت هويتها وشخصيتها.

الحويش الآن مهددة بالإزالة بحجة توسعة الصحن العلوي الشريف كما تمّت إزالة محلة البراق التاريخية في زمان النظام المقبور وبالحجة نفسها.                

وربما يمتد الهدم إلى مدرسة البروجردي ومسجد الطوسي ساباط علي أغا ومقبرة آل بحر العلوم ومكتبة الحكيم ومسجد الهندي  وبراني عبد الهادي الشيرازي وداره وصولا إلى مدرسة اليزدي.  

هنا بودي أن أسأل هل تم هدم الأسواق العتيقة في المدن الكبيرة، فهل هُدِم سور الأزبكية في مصر؟ وهل تمت إزالة أكشاك الكتب في باريس على ضفاف نهر السين؟ وهل تمّ هدم (باساج قدس) في إيران؟ الإجابة طبعا لا.

توسيع الصحن العلوي يمكن أن يكون من جهة أخرى، ولا شك ولا ريب أن أي مسلم عامة وأي عراقي، خاصة يتمنى أن يرى العتبة العلوية في أبهى وأجمل صورة.

ولكن أليست الحويش جزءا من  شخصية النجف، ومن الأمكنة التي تعطي للمدينة نكهة تاريخية لا يمكن أن تعوض.

أظن أن الحلول التي يمكن أن تتخذ في هذا المجال كثيرة وناجعة، ويمكن أن يكون تجاوز هدم هذه المحلة النادرة من أهمها لما له من أثر كبير في حفظ  الشخصية الخاصة لهذه المدينة العريقة.   الحويش ليست مجرد سوق للكتب.. هي حياة كاملة ما تزال يتردّد صداها في ضمير الأزمنة. 

هي ذكريات وخطى لآلاف العلماء والعارفين والطلاب من كلّ أنحاء العالم. الحويش ذاكرة.. أتمنى أن تبقى.