هل تصبح الصين قوة تكنولوجيَّة عظمى؟

بانوراما 2023/05/06
...

  ميزويت أوزكان 

  ترجمة: أنيس الصفار                                            


في بيئة عالم اليوم المفعمة توفر المبتكرات التكنولوجية، مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة والروبوتيات وتكنولوجيا الكم وتكنولوجيا الفضاء بعمومها، امتيازات استثنائية للدول وتشكل صورة المنافسة بين القوى عالمياً. والصين، التي جذبت الانتباه باستثماراتها وسياساتها في هذه المجالات، بدأت تبرز كمنافس وند خطير للولايات المتحدة.

تهدف الصين إلى استغلال جميع الفرص السياسية والاقتصادية والعسكرية والتجارية التي تتيحها تكنولوجيا الابتكار لكي تصبح رائدة العالم في مجال التكنولوجيا، وتعتزم الستراتيجية الصينية، التي تنشط فيها آليات الدولة الصينية مجتمعة، زيادة الدعم للمشاريع التي تمتلكها الدولة واعطاء الأولوية لنشاطات البحث والتطوير وضمان صناعات التكنولوجيا العالية، إلى جانب تعزيز زخم برامج الابتكار. لكن، ما الذي يعنيه هذا النهج الذي أخذ يثير قلق الدول الأوروبية مؤخراً؟


البراغماتية التكنولوجية 

مطلع العام 2006 أعلن مجلس الوزراء الصيني أنه يرى في تكنولوجيا الابتكار خياراً ستراتيجياً ضمن الخطة الوطنية على المديين المتوسط والبعيد للتطور العلمي والتكنولوجي (2006-2020). وفق هذا السياق بدأت الصين باِشاعة استخدام التقنيات الرقمية والاتمتة انسجاماً مع خططها الخمسية للتطوير، التي تركز على تعزيز قدراتها في مجالات مثل المركبات الطائرة غير المأهولة والفضاء. بموجب البرنامج 973، الذي ابتدأته في العام 2009 بتنسيق مع وزارة العلوم والتكنولوجيا، قامت الصين بزيادة الدعم للعديد من البرامج العلمية التي شملت تكنولوجيا الكم والفضاء وتكنولوجيا الاقمار الاصطناعية والقدرات السيبرانية والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وانظمة التشغيل الآلي والروبوتيات.

الصين، التي نظّمت أهدافها التكنولوجية بموجب قوانين في العام 2015 حين اعلنت عن خطتيها «صنع في الصين 2025» و»انترنيت بلاس»، ركزت بشكل خاص على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الكم والبيانات الضخمة. يوفر التطوير التكنولوجي ايضاً فرصاً اقتصادية واسعة النطاق للصين، رغم استمرار التحديات في مجالات تطوير صناعة التكنولوجيا المتقدمة وزيادة حصتها في السوق. بمواجهة لاعب يمتلك شركات تكنولوجية كبرى مثل الولايات المتحدة يحاول صناع السياسة الصينيون رفع قدرات بلادهم وتحويلها إلى لاعب قادر على المنافسة في السوق العالمية بشركات، مثل: علي بابا وتينسنت وبايدو وهواوي وشياومي.


دمج القدرات التكنولوجية والعسكرية

الغاية الاخرى من استثمارات الصين في مجال تكنولوجيا الابتكار هو دمج هذه القدرات وغيرها من التقنيات ذات الاستخدام المزدوج في المجال العسكري. ففي العام 2015 باشرت الدولة بزعامة الرئيس «شي جنبنغ» باجراء اصلاحات في «جيش التحرير الشعبي» كجزء من سياسة الدمج التكاملي بين العسكري والمدني وقد طوّرت منذ ذلك الحين قدرات «قوات الدعم الستراتيجي» لجيش التحرير الشعبي في ميادين الفضاء والحرب السيبرانية وفنون الحرب الالكترونية. وتهدف الصين ايضاً، من خلال تحديث جيشها، إلى وضع عقيدة عسكرية جديدة موضع التطبيق أساسها المنافسة في الفضاء وحروب المستقبل.

انسجاماً مع هذه العقيدة ومع هدف اعادة هيكلة القوات المسلحة ضمت الشركات المملوكة للدولة وشركات التكنولوجيا في القطاع الخاص والجامعات ومراكز البحوث جهودها معاً في شراكة مع الجيش الصيني. في هذه المرحلة برزت تكنولوجيا الكم والقدرات السيبرانية وبرامج الفضاء والأتمتة والروبوتيات والذكاء الاصطناعي كمكونات اساسية لستراتيجية الدمج التكاملي العسكري المدني. وفي العام 2017 اسست البلاد ما يسمى «المفوضية المركزية لتطوير الدمج العسكري المدني» واوكلت اليها مهمة التنسيق بين سياسات الاندماج المدني العسكري كما منحتها صلاحيات واسعة لتحديد الاحتياجات وتجهيزها.

واصلت الصين، التي ارسلت إلى الفضاء في العام 2016 قمراً اصطناعياً مخصصاً لعلوم الكم من اجل رفع قدراتها العسكرية، بحثها عن فرص لتحسين قدراتها الاستخبارية والاستكشافية والاستطلاعية وكسب ميزة على منافسيها العالميين. جرياً على هذا السياق بدأت «مجموعة مشروع 360 الامنية»، وهي أول مركز للابتكار الأمني السيبراني المدني العسكري المشترك، بانشاء انظمة دفاع سيبرانية مهمتها تلبية الاحتياجات العسكرية.


تنافس عالمي 

اما بالنسبة لواشنطن فقد غدت قدرات الصين التكنولوجية المتصاعدة من بين القضايا الرئيسية في علاقاتها الثنائية مع بكين. ونظراً لرغبة صانعي القرار الأميركيين في الابقاء على قيادة واشنطن للعالم في مجالات الاقتصاد والعسكرة والتكنولوجيا صار الدمج والتطوير المدني العسكري الذي تقوم به بكين في مجال تكنولوجيا الاستخدام المزدوج يمثل تحديات حاسمة بوجه الولايات المتحدة. لهذا السبب تبنت واشنطن، منذ العام 2010 وخلال فترة ادارة الرئيس أوباما، ستراتيجة تهدف للحد من الصعود الاقتصادي الصيني السريع. وبعد انتخاب الرئيس «دونالد ترامب» تبنى الاخير سياسة اكثر عدوانية تضمنت فرض عقوبات اقتصادية وتكنولوجية. هذه السياسة، القائمة على اساس العقوبات، الحقت خسائر ملحوظة بالشركات الصينية مثل هواوي، ومن بعد ذلك تواصلت سياسة واشنطن في مقارعة الصين خلال عهد الرئيس «جو بايدن» ولو ان الاساليب اختلفت.

رغم ذلك كله يمكن القول إن سياسة واشنطن ازاء الصين لا تزال غير واضحة، بيد ان اربعة معايير اساسية حاسمة يمكن تبينها بوضوح هي: المحافظة على ريادتها التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية، والحد من نفوذ الصين في سوق التكنولوجيا من خلال تعميق التعاون مع حلفائها، وانتاج تكنولوجيا بديلة وبناء هيكلية تقنية سياسية ضد منافسيها.

فتركيز حلف الناتو المكثف على الصعود التكنولوجي للصين مثلاً خير مؤشر على مدى ما يشعر به الغرب من قلق، والشركات الغربية لا تفتأ تحث على الحد من التعاون مع الصين، وفي بعض الاحيان تشرّع قيوداً لذلك. كذلك بذلت مساع وجهود للحد من استحواذ بكين على الشركات الغربية.

مع ذلك لا ترتكز ظروف ومجالات التنافس في عالم اليوم على الانموذج الأمني وحده، فمؤسسات النظام العالمي الحالي ولاعبوه المؤثرون مستمرون في التفاعل مع الصين تفاعلاً وثيقاً. بعبارة اخرى أن الهيكلية ثنائية الأقطاب لم يعد لها وجود في البيئة التنافسية اليوم، وكثير من اللاعبين، بمن فيهم الولايات المتحدة وحلفاؤها، لا يجدون بداً من التعامل مع الصين في مجالات عديدة. هذا الوضع يزيد المشهد وكذلك الحملات المستقبلية المضادة للصين تعقيداً.

عدا ذلك فإن التنافس التكنولوجي لا يقتصر على الفضائين الفيزيائي والجيوسياسي لأن البيئة التنافسية تتخطى الدول والمؤسسات والشركات واللاعبين الاخرين لتشمل المعلومات وجميع الميادين القائمة على البيانات. هذا التنافس في الفضاء الرقمي ليس مساحة يمكن للدول والحكومات وغيرها من الجهات الفاعلة - حتى تلك المسلحة بالسطوة والهيمنة- ان تمارس فيها تسيداً مباشراً، وهذا الوضع يعظم أهمية النقاش بشأن مستقبل بيئتنا التنافسية الحالية.


عن مجلة «ذي ناشنال إنتريست الاميركية