مدن تُبنى لإعادة الاستخدام

بانوراما 2023/05/14
...

 جيمس غاينز

 ترجمة: مي اسماعيل

ينتهي المطاف ببقايا معظم المباني القديمة في مكب النفايات (أو الردم)، لكن بعض المدن بدأت باستخدام تصاميم يمكن تفكيكها بسهولة وإعادة استخدامها منذ البدء. يحاول كثيرون اليوم إعادة تدوير الصحف وقناني البلاستيك وعلب الألمنيوم، في مسعى لتقليل نفاياتهم المنزلية. لكن قليل منا يفكر بالكمية الهائلة من النفايات التي تنتج باسمنا بطريقة مختلفة: المباني التي نسكنها. تعتبر صناعة التشييد أكبر مستهلك للمواد الخام عالميا، والمباني الجديدة مسؤولة لوحدها عن خمسة بالمئة من انبعاثات غاز الدفيئة السنوية عالميا. أغلب تلك المواد سيجري استخدامها لتشييد مبنى واحد فقط، وستتحول الى مواد للدفن حينما يصل المبنى الى نهاية عمره الافتراضي، وهذا يكون عادة بين ثلاثين الى مئة وثلاثين سنة.
يقول "فيليكس هايزل"، وهو معماري وباحث من جامعة كورنيل: "بينما نحاول وضع قضية إعادة التدوير أمام الأنظار، تبقى مسألة صناعة التشييد التي تُنتج (في الولايات المتحدة) ضعف كمية المخلفات التي يُنتجها أيٌ منا في منزله". 

مع ذلك بدأت المدن حول العالم بإعطاء مزيد من الاهتمام لفكرة إعادة تدوير مواد البناء، حتى أن بعض الجهات أصدرت مراسيم تطالب شركات البناء بالتخطيط لذلك.

وفي الوقت ذاته يخطط المعماريون لطرق بناء هياكل جديدة مصممة للتفكيك منذ بدء الانشاء.. إذا كيف ستبدو مدينة تقوم على تلك الأسس؟ 


تفكيك بدل الهدم

يرسم المختصون صورا لمدن فيها مبانٍ مشيدة من الخشب المكشوف وتستعرض جماليات الفولاذ، تلك التي تحتاج إلى القليل من الموارد الخارجية لإدامة صناعاتها الانشائية، وهي في ذات الوقت أكثر اخضرارا ومرونة، وقادرة على الاستجابة بسهولة لنقص المساكن أو التعديلات التحديثية.

لكن الطريق طويلة الى تلك المدن الجديدة القابلة لإعادة التدوير، وستكون بحاجة لخلق أدوات جديدة وأسواق وحوافز، وربما حتى طريقة جديدة للتفكير بشأن الملكية وموقعنا في البيئة المشيدة. 

يعتبر هدم مبنى ما أمر سهل نسبيا، إذ يمكن أن تحوّل الجرافة أو الحفارة المنزل إلى كومة أنقاض خلال ساعات.

لكن لهذا جانب سلبي كبير، إذ ستصبح كل المواد الآن مكسورة أو مهشمة ومختلطة ببعضها، ولا يمكن فعليا اعادة استخدامها  ثانية، ويجب حرقها أو نقلها الى المكب.. وهذا ليس بالضرورة ما يمكن أن يصل اليه الحال.. تبنت مدينة بورتلاند الأميركية في شهر تشرين الأول عام 2016  قانونا للتفكيك، يتطلب بموجبه أن يجري "تفكيك" المنازل السكنية التي بنيت عام 1916 أو قبله (وجرى تحديثه لاحقا لتصل صلاحيته حتى عام 1940 أو قبله) بدلاً من هدمها. 

يقول "شون وود" (من متخصصي معالجة مخلفات البناء في المدينة): "كانت الغالبية من المنازل التي تُزال في بورتلاند حتى عام 2015 يجري هدمها.

اما اليوم فيجري تفكيك الغالبية يدويا من قبل متعهدي الهدم، وانقاذ موادها لإعادة الاستخدام". 

كانت هذه الخطوة مستوحاة بعد فيض من عمليات الهدم بالمدينة بدأت نحو عام 2014، وأثارت مخاوف من تراكم المخلفات والتأثيرات البيئية الناجمة عن حرق الانقاض أو ارسالها لمواقع الطمر. 

حذت مدن أميركية أخرى حذو بورتلاند، وفي ولايات متعددة.

لكن التفكيك عملية تأتي محفوفة ببعض التحديات، إذ لم تُصمم أغلب المباني بهذا التوجه أساسا. 

من أهم تلك التحديات، الوقت والعمالة المطلوبة للإنجاز، فهدم منزل قد يحتاج الى يومين، لكن تفكيكه قد يحتاج الى عشرة! واذا كانت المواد المستعادة من التفكيك ذات قيمة جيدة فانها ستسدد كلفة الوقت الاضافي والعمالة، لكن غالبا لا يمكن معرفة دواخل تلك المباني مسبقا، كما يقول هايزل. 


مبدأ قديم

يحاول هايزل تطوير طرق لاستخدام معدات مثل "ليدار- Lidar" ( كشف الضوء والمدى) وبيانات التشييد لمساعدة العاملين على التقييم السريع لتصنيف ماهية المواد المختبئة خلف الجدران التي يمكن إعادة بيعها وكميتها.

ومن المشاكل الأخرى هي المواد التي جرت معالجتها بمواد كيميائية يحتمل أن تكون سامة، أو ان المواد المركبة أو المربوطة أو الملتحمة مع بعضها في شبكات من الخشب والكونكريت والحديد يمكن أن تكون صعبة التفكيك والعزل، وبالتالي يستحيل إعادة استخدامها. 

ومع ذلك، يمكن معالجة تلك المشاكل إذا اغتنم البناؤون مبدأ "التصميم للتفكيك"، حيث تُصمم المباني منذ البداية بحيث يمكن فصل موادها بسهولة. 

مبدأ "التصميم للتفكيك" في جوهره تقنية قديمة جداً، فخذ مثلا منازل البدو (الخيام) ومساكن الهنود الحمر (التيبي)، التي يتم تفكيكها بانتظام بسبب الحاجة إلى نقلها بشكل دوري. 

وهناك أيضا امثلة متميزة للعمارة اليابانية، وكذلك مباني المعارض المؤقتة (مثل- كريستال بالاس).

لكن خلال العقود الأخيرة دفع بعض المصممين لدمج خطط التفكيك في مباني المكاتب والشقق والمنازل الحديثة أيضاً.. إذا، ما الذي يُميز مبنىً مصمما للتفكيك عن آخر ليس كذلك؟  قد يتمثل أحد الاختلافات المهمة في اختيار بعض المواد التي يسهل إعادة تدويرها أو إعادة استخدامها، مثل الخشب والحديد، وتفضيلها على مواد أخرى مثل الخرسانة أو الحوائط الجافة. 

ويكمن اختلاف آخر في الطريقة التي يجري بها ربط المواد، إذ يتجنب البناؤون اخفاء وصلات التركيب في أماكن يصعب الوصول اليها أو اقامة وصلات لا يمكن كسرها.

وبدلا من وصلات اللحام واللواصق الكيمياوية، يركز المصممون على مسامير قابلة للإزالة أو مثبتات ميكانيكية.

وحتى التغييرات الصغيرة (مثل استبدال المسامير بالبراغي) ستزيد من سهولة تفكيك العناصر البنائية بالنسبة للعاملين مستقبلا، واعادة استخدام قطع الخشب بدلا من رميها.

وقد يجري تنميط الوصلات البنائية (standardized = توحيد مقاييسها) لتسهيل تبادل القطع بينها أو استخدامها مجددا. 

هذا التصميم القياسي سيُسهّل مستقبليا على شاغلي المباني إجراء عمليات التصليح والاضافة أو ازالة التراكيب (مثل الاضاءة السقفية أو النوافذ). 

يمكن ازالة ألواح كاملة من الجدران برفع بضعة براغٍ، وإعادة تجهيز الغرف بجهد بسيط نسبيا، أي- تحويل مكتب إلى غرفة نوم أو حتى مطبخ. 


مكسب الأجيال المقبلة

بدأ تطبيق مثل تلك الأساليب في العديد من شركات التشييد، ولكنها تتناسب أيضا مع عدد متزايد من اللوائح الحكومية حول "الاقتصاد الدائري"، وهو مصطلح عام لخطط تحد من تأثير البشرية على البيئة، عن طريق إعادة تدوير المنتجات والمواد وإعادة استخدامها قدر الإمكان. 

في عام 2021 نشر مكتب عمدة لندن "صادق خان" مبادئ توجيهية لمشاريع البناء الكبيرة في العاصمة البريطانية، طالبت منفذيها بإكمال تقييمات الكربون لدورة حياة كاملة للمبنى، وببيانات الاقتصاد الدائري قبل الحصول على موافقة البناء. 

وفقا لاحد التحليلات يوفر تصميم الهياكل الحديدية للتفكيك (حيث يمكن اعادة استخدام الهيكل كاملا) نحو سبعين بالمئة من الطاقة وثمانين بالمئة من انبعاثات غاز الدفيئة، مقارنة بإذابة ذلك الحديد تماما لتدويره.

كما أن المباني المُعدة مسبقا للتفكيك تنحو لتكون أكثر مرونة تصميما خلال عمرها الافتراضي، مما يُسهل الاستمرار باستخدام المبنى المشيد رغم تغير الاحتياجات. لكن العقبة الأكبر تبقى في أن ما نحافظ عليه من مواد اليوم انما سيبقى لأجيال مقبلة، وليس للاستخدام الآني. وجزء من المشكلة هنا أنه رغم كون التصميم للتفكيك اليوم قد يوفر الأموال وانبعاثات الكربون على المدى البعيد، لكنه سيكون أكثر تكلفة الآن. وقد يؤدي تصنيع واستخدام البراغي الفولاذية القابلة للإزالة بدلاً من اللحامات التي لا رجعة فيها إلى زيادة التكاليف النقدية وتكاليف الكربون، على سبيل المثال. وهذا قد يُعقّد كيفية تقسيم الحوافز الحكومية بشكل أفضل، إذ قد تعطي قوانين البناء الحالية الأولوية لمعالجة انبعاثات الكربون أو تخفيضات النفايات الفورية وتكافئها على حساب التخفيضات

المستقبلية. 

كما أن الأمر يتطلب توقع الحاجة المستقبلية للمباني، وتقييم دورة لحياة مبنى افتراضي التصميم من أجل التفكيك. وإذ إن فوائد المباني المؤقتة أو قصيرة العمر أكثر وضوحا الآن، فإن احتياجات المباني ذات العمر الطويل ستكون صعبة التوقع بثقة، ومدى امكانية استخدام موادها ثانية. ومع ذلك، يرى الباحثون وعدا مثمرا في تقنيات التفكيك، ويحلمون بمدينة مبنية تماما وفق هذا المبدأ.. ولعلها تكون كمدينة مشيدة من مكعبات 

الأطفال، قابلة للتشكيل باحتمالات لا حصر

لها..


موقع بي بي سي البريطاني