من السجون المنغلقة إلى فوضى القيم العجيبة

منصة 2023/05/15
...

  أ.د. سيّار الجميل 

من خلال كتابي  {انتلجينسيا العراق: النخب المثقفة في القرن العشرين} منذ ربع قرن مضى وسأعيد نشره هذا العام،  تعلمت  خصوصيات العراق الثقافية  ووجوب تكوين أرقى حياة ثقافية عراقية في العالم أجمع بحكم ما امتلكه من خزين ثقافي وحضاري عبر الاف السنين، وما  عرفته ثقافاته من حيوية وابداعات وتفوق في كل مجالات الحياة العلمية والادبية والفنية. وقد عرفت مخلوقاته المتنوعة أرقى الثقافات والملاحم والإبداعات الاسطورية والمنتجات  الأدبية والمعرفية والتشكيلية، وقد وصف  بجمجمة العرب وكنز الرجال.. وأضيف لذلك بأنه فردوس النسوة المبدعات.

فماذا حلّ بحياته الثقافية  بعد سجنها؟ وما الفوضى التي غدت عليها؟ وما سبل الخلاص من تأثيراتها وفراغاتها الرخوة؟ وكيف  يمكن انطلاقها  من جديد في القرن الحادي والعشرين؟ 


تساؤلات  مواجهة 

هل ستبقى ثقافة العراق تزحف زحفا بطيئا  على غرار كل مرافق الحياة في العراق؟  هل يستوي الخطاب المعلن والمشوب بالادعاءات وهو يحمل عنوان "الثقافة العراقية" مع  الحراك الحقيقي،  الذي  تعيشه  مجتمعات أخرى في العالم، وهي لا تمتلك مواريث العراق الثقافية؟  هل تقوم المؤسسات الثقافية العراقية اليوم  بمهامها الحقيقية من أجل إحياء  الحياة العراقية؟ أم  أنها لم تزل  قابعة  في زواياها  بلا اي  تجديد حقيقي  في الخطاب  والواقع معاً؟ هل زالت  مشكلات (أو بالأحرى: معضلات) بعض الاتحادات، وغدت تمتلك حريتها، وحسن اختياراتها، وتمتعها بالديقراطية والتوازن  لمجئ الاكفأ ثقافة ومواهباً، أم  بقيت  على أوضاعها  كما عاشتها  على مدى  اكثر  من ستين عاماً مضى؟  هل عولجت الشروخ الجديدة التي استجدت اليوم  بين  العراقيين  في الداخل أو في المهاجر؟  فكلّ عراقي  له الحق في أن يمارس حقّه ودوره الثقافي في أيّ مكان في العالم.. هل غيرّت  المؤسسات الثقافية العراقية أنظمتها الداخلية، بحيث غدت تنسجم من  المفاهيم المتطورة في العالم .. أم انها لم تزل منكفئة على نفسها  ضمن  التقاليد البدائية التي  عاشت عليها  منذ عقود طوال من السنين؟ هل حرص أي مسؤول في العراق  له علاقة  بمثل هذا "الموضوع" أن يبحث عن المبدعين العراقيين اينما كانوا ليجعلهم في المقدمة، بعيدا عن الوصوليات والمنسوبيات والمحسوبيات والقرابيات، وصولاً إلى الطائفيات كما جرت العادات المزرية في العراق منذ دهور؟  واخيرا، هل تفتحت الذهنية العراقية  في  الرؤية  إلى الانسان العراقي  بشكل  موحّد  بعيدا عن  كل الانتماءات  الفرعية والمحلية وحتى المجهرية؟ وهل  بدأت الثقافة العراقية متجانسة  في قبول تنوعها  وتعدديتها، وقد اجتمعت في اطار مشروع  حضاري  ووطني  واحد؟  


المعاني والمفاهيم 

أتمنى تماما أن يدرك المرء في العراق أن ثقافة العراقيين ومشتركاتهم التاريخية والحضارية والانثربولوجية بكل عاداتهم وتقاليدهم واكلاتهم وملابسهم واساليب  علاقاتهم  وفولكلورياتهم  واغانيهم.. الخ  هي غير  حياتهم الثقافية (أو : المثقفة)  التي تعني ابداعاتهم ومنتجاتهم الادبية والعلمية والفنية وكل مخلوقاتهم الجميلة في مختلف المرافق مع تعدد الاساليب والمناهج  والجماليات في تشكيلات الخطاب والكتابات والمفاهيم والفلسفات.. الخ فعندما اقف عند  تطوير الحياة الثقافية في العراق، فأنا أعني  النخب المبدعة  والمؤسسات  والجماعات وحتى الافراد  مهما طال غيابهم  أو زادت عزلتهم أو شاخت ارادتهم.. فلا حياة ثقافية حيوية في اي  بقعة في الارض ان لم يعتن  بجميع من ساهم في اثراء ثقافة بلده، أو اعتنى بجمالية مخلوقاته  ورفد مجتمعه  بالمزيد  من الابداعات  سواء  مع مجايليه  أو  مع ابناء الاجيال القادمة.  


موطن الثقافات  والحضارات  لا يمكن أن تموت ثقافته

لا نكرر مع الآخرين عن حضارات العراق وسلاسل ثقافات مجتمعه منذ الآف السنين، فالعالم كله يعرف "كلكامش"، وكيف عرف العراق نفسه كأمة جست ثقافاتها جملة من المؤسسات والنظم والقيم ومعايير السلوكيات وأعرق المكتبات وديمومة الذاكرة وتطور اللغات.. إنه تاريخ لجذور ثقافات العالم قاطبة مع تعدد الحضارات العظيمة منذ الاف السنين.. فان كان مهدا لها، فكيف بالثقافات فيها؟ اننا نفخر بما يقوله الاركيولوجيون والمؤرخون في العالم عن  العراقيين القدماء في موسوعاتهم وكتبهم، فكيف يمكننا  احياء ثقافة العراقيين اليوم مع حياتهم الثقافية المتطورة ليكونوا حقا من نسل السومريين والبابليين والآشوريين والعرب والأكراد والتركمان والفرس والأرمن -  وتلك لعمري  أمنية  في خروج  الحياة الثقافية في العراق  من حالاتها البائسة  وشرانقها  وخنادقها  وجعلها  كلها  نسيج منسوج من خيوط كثيرة.  

إن الأمل معقود على الاجيال الجديدة ان نجحت في تجاوز الحالات الصعبة وحالات الفراغ الذي خلفته العهود السياسية السابقة، وفضّ الاشتباك مع ارتال من المتخلفين والمنغلقين والادعياء والاشقياء  والانقساميين  والمتطفلين والمترهلين وغيرهم من المخلوقات العجيبة التي  فرضت نفسها ارقاما ثقافية وهي لا تملك  من  الثقافة قلامة ظفر!  علما بأن العراق  يمتلك  قوة  عجيبة في  ولادة المبدعين على امتداد الأزمنة، وقد عاش انتكاسات مريرة ثم ينفض رجاله ونسوته الغبار  ليفتحوا الستار عن  حياة ثقافية جديدة رائعة. 


الثقافة العراقية في سجن رقم (1)

 لأكثر من نصف قرن 

لقد مرت الحياة الثقافية العراقية  بمراحل زمنية عدة، فكانت تتلون بألوان أزمنتها  المعاصرة  سواء على زمن الافندية فيما بين الحربين العظميين، أو في  زمن النخب المبدعة وحركتهم  ضمن دائرة ليبرالية وصولا إلى الازمنة العسكرية  وحلول  الثقافة البيروقراطية:  وممارسة قمع جميع أشكال التعبير عن الإبداع البشري التي لا تتوافق مع الطبيعة الشمولية والمتقلبة للانظمة الحاكمة، وكثيراً ما دفع مؤيدو وجهات النظر البديلة الثمن النهائي لتخطيهم الخطوط الحمراء  فنجد هناك من قتل وهناك من انتحر  وهناك من سجن  وهناك من فر هاربا..  وكلنا عاش ورأى كم حجم أولئك الذين حسبوا بمثقفين  وقد صنعتهم السلطة  وكانوا بيادق بيدها  وسجنوا الحياة الثقافية  في سجن رقم (1)  ولم يفكروا الا في رقم (1)،  ولم  يكتبوا شعرا الا للرقم (1)، وكم تصايحوا وهم يغنون ويهزجون للرقم (1)، وهم  لهم الكلمة الفصل في  الاصدارات والمعارض  والمؤسسات  وكل ما قبضوا عليه  من الانفاس.. فكم خنقت الثقافة؟ وكم اغلقت منتديات وجمعيات ونقابات واضطهدت اية تجمعات؟ وكم أمست المفاصل الرئيسية بلا حياة، فان مركزية الحياة الثقافية والسيطرة عليها "انتجت سياجا شوفينيا وثقافة دوغمائية رسمية شبيهة بالببغاء وهي تعد في قوالب معدّة مسبقا، وفقا للاطوال المحددة مسبقا بحدود القسوة ونتيجة لذلك، وجد المثقفون والمبدعون من الكتاب والفنانين، والشعراء والادباء والتشكيليين.. الخ أنفسهم مهمشين وبعيدين جداً عن النظام الاجتماعي  وهم يتملكهم الرعب  والريبة مع  التأكيد على المجاملات المزيفة  أو ترديد  العبارات الكاذبة.. والعراقيون اذكياء  يدركون ان ذلك  كذبا وبهتانا  الا من عمي قلبه  وانطفأت بصيرته!  ولقد ساد  ذلك المناخ  الثقافي  لأكثر من 40 عامًا.  علما بأن الثقافة العراقية بالرغم من حبسها  حبسا مؤبدا، فان  المجتمع  قد تأقلم  على ذلك  من أجل ان يعيش  اذ  كانت الجماهير العراقية تتلقى عن شغف  ثقافتها المركزية من خلال  مجلات  ثقافية  تنشر فيها مقالات رصينة  بعض الاحيان مع أجزاء ضئيلة من الثقافة الموجّهة البائدة، والدعايات الملفقة، وقصائد عبادة البطل النارية، وكرنفالات فاخرة وتجمعات شوارعية تقوم وتقعد على المداهنات  وترديد الشعارات .  


الضمور  الثقافي في العراق 

لا  أحد يتصّور حجم  الضمور الذي  أصاب الحياة الثقافية  العراقية  أيام فرض العقوبات التي استمرت 12 عامًا على العراق، وخصوصاً في أعقاب غزو الكويت، وحلت الكارثة بتدهور الحياة الثقافية في العراق.  ان المشهد الثقافي في العراق كاد أن يموت ايام فرض الحصار.. لولا ارادة  المثقف العراقي  الحقيقي أديبا ام عالما ام فنانا  اذ  واجه بكل قوة  وكفاح  واستجاب لاقسى التحديات  من أجل البقاء. فقد كان هناك نقص في مرافق الطباعة إلى جانب النقص الحاد في الورق ومواد الطباعة ؛ فقد اعتاد العراق – مثلا -  على استيراد 100،000 طن من الورق سنويًا، ولكنه انخفض في النهاية إلى 10،000 طن سنويًا، بدءًا من أغسطس/ آب  1990. ولحق بالمكتبات العامة والجامعية نقص هائل في المعلومات والكتب والدوريات. وكان العديد من الكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين إما غير قادرين على السفر لحضور المؤتمرات أو لم يُسمح لهم بذلك أو لأن دولًا أخرى لم تمنحهم تأشيرات الدخول. مات الثراء الثقافي العراقي الذي عرفه بعض المثقفين والاعلاميين العرب في اجتماعاتهم في العراق.. الا من جعل نفسه بوقا، وقد استفاد البعض من الصحافيين والفنانين  من هبات  العراق  وقد حدثتني الفنانة الممثلة  رغدة  شخصيا  في بيروت عن  استفادتها من براميل النفط التي منحها اياها العراق لقاء الادوار التي  لعبتها  لخدمة  السلطات وقت ذاك. وعلى الطرف الآخر، انسحق المثقف العراقي بسبب ضآلة راتبه  أو رزقه وبات يستجدي ويشحذ  وباع ما يمتلكه ليسد رمقه وهو في دوامته صاغرا !  


هل من حيوية  اثر التنكيل بالثقافة 

العراقية مع الاحتلال 2003؟

كان الاحتلال الاميركي للعراق معول تنكيل بالمتاحف والمكتبات والمؤسسات الثقافية وبطريقة همجية مخطط لها، وقد عبثت الفوضى بكل الارشيفات الوطنية الوثائقية والثقافية والاذاعية والفنية والعلمية والاعلامية وبطريقة بشعة سوف لم ولن ينساها التاريخ ابداً، وقد جرت محاولات حثيثة من قبل مثقفين أحرار واكاديميين عراقيين ساخطين الوقوف ضد كل ما جرى، ولكن لم يكن احدا يسمع أو يرى، والمشكلة أن عراقيين  معروفين  قد شاركوا  في تلك  الحملة العنيفة وصفقوا ضد الثقافة والارشيف العراقيين. فأن كانت نقمة الاخرين المتربصين بالعراق  من غير العراقيين، فكيف  رضي العراقي  بأن تشنق ثقافة العراق امام العالم ولم يفعل شيئا؟ المهم، أن الصدمة والتي تلتها صدمات عنيفة شتى خلقت جملة من الحوافز الجديدة لدى جيل جديد.. جيل خرج من رحم المأساة وقد سبقتها كتلة من المآسي..  لقد وصل الاحتضار الثقافي في مدن كانت تزهو بحياتها وقواها الفاعلة ليجد نفسه في دائرة العنف والقتل والارهاب والاختطاف في بيئة تحترق وتأكل بعضها بعضاً، لكن ثمة ارادة فولاذية  لمثقفين عراقيين جدد  ناضلوا  حتى الرمق الأخير، ومنهم نالهم الخطف والتنكيل وافتقدوا حياتهم بلا رجعة..  ووصلت الممانعة والرفض  إلى اقصى مداه في حراك تشرين الذي  احياه الاباة من ابناء جيل  له نظافته واغلب عناصره من المتعلمين والمثقفين الجدد  الذين ارادوا إخراج العراق من محنته ومن نفق الماضي المظلم وتخليصه من الأوبئة الجديدة التي 

اجتاحته . 

ومن المفارقات، أن المناخ الفوضوي المرتبط بضعف أو غياب مؤسسات الدولة هو الذي سمح بحرية غير مسبوقة للإبداع الثقافي والفني.  على الرغم من أن العديد من الكتاب والمفكرين والروائيين والفنانين والمثقفين العراقيين فروا أو أجبروا على النزوح والهروب نحو الشتات في أزمنة متنوعة، إلا أن الموجة الجديدة من المثقفين العراقيين الجدد خرجوا عن دائرة الصمت، وهو الصمت الذي ران عند المثقفين العراقيين عقوداً طوالا من السنين.  لقد أصبحت الجماعات السياسية والقومية والعرقية المتنوعة في العراق  قادرة  على الخروج  من السجن الكبير  والتعبير عن نفسها دون قيود أو رقابة، ولكن، للأسف، ليس بدون خوف تمامًا.

كيف الطريق نحو احياء الحياة الثقافية العراقية الجديدة  نحو المستقبل؟ 

أولاً : اتمنى على المؤسسات الثقافية العراقية فك ارتباطها  بأي نظام سياسي يأتي، اي  تحرّر ارادة المثقفين العراقيين من أيّة ارتباطات سياسيّة رسميّة  ليبقى المثقّف حرّا في التعبير عمّا يريد قوله أو كتابته أو رسمه .. أيّ أن خطابه  يبقى مستقّلا كما هو الحال في  ثقافات العالم .

ثانياً :كذلك لابدّ من احياء حياة النخب الفكرية والثقافية والفنية من خلال التجمعّات والندوات واللقاءات والمعارض.. واقرأ عن بدء وجودها اليوم في العاصمة والمدن الرئيسية  متمنياً تطوّرها  والمزيد من ابداعاتها.. ناهيكم عن ضبط المؤسسّات التربوية والتعليمية في تخريج الالاف المؤلفة بلا جدارة ولا كفاءة ولا معرفة ولا ثقافة عامة .. فهل يعقل أن لا يعرف المثقف التمييز بين الضاد 

والظاء  مثلا !؟

ثالثاً : اضافة إلى ضرورة قيام بعض المؤسسات الثقافية والعلمية بتجديد الانظمة الداخلية فيها، فما كان قد شّرع من انظمة داخلية قديمة عندما كانت نفوس العراق  7 ملايين نسمة  أو 15 مليون نسمة، فان  عدد السكان اليوم يتجاوز الاربعين مليونا وقد تغيّر الزمن والاجيال والمجتمع. 

رابعا : الاستفادة القصوى لما يجري في مؤسسات ثقافية متطورة في العالم من أجل احياء  الحياة الثقافية في العراق  باعتمادها نوع المثقف لا  اعداده  الغفيرة، وان تزداد شروط العضوية  ثقلاً، فلا يمكن قبول أيّ شخص نشر  كرّاساً تافهاً  مسروقاً  ليكون عضواً في  مؤسسة ثقافية !!

خامساً : ابعاد اية عوامل سوسيولوجية دينية بحكم وجود اديان ومذاهب وطوائف وقبائل وعشائر وملل واعراق متنوعة متعددة في العراق عن الحياة الثقافية العراقية والتي لا يمكنها ان تحيا  في طريق  المجد  ان لم  تتمتع بمبدأ القبول والتسامح  بوجود العقل المنفتح  والمستنير.

سادساً :  ان ثقافة العراقيين لا تحيا ابدا ان بقي المجتمع غير منسجم مع ذاته،  وان تتوّثق  عرى متينة من العلاقات المحترمة بين ابناء الداخل  وابناء المهاجر ( الذين يقدر عددهم بأكثر من خمسة ملايين نسمة من العراقيين المغتربين ) وأغلبهم من المثقفين والمبدعين  والمناضلين  وقلوبهم  لم تزل متمسّكة بالعراق عدا ذاكرتهم الخصبة.  

سابعاً :  الانفناح الذهني والحضاري  على الآخر، والخروج من  اقنية الانغلاق وشرانق  الماضي،  فالعراق لا يمكنه التخلّي عن موروثاته العظمى، ولكن بنفس الوقت لا يمكنه أن يبقى منغلقاً عليها، ويسبّح بحمدها  ليل نهار، أو يبكى ويلطم على أطلالها ان لم يخلق له حوافز ذهنية لبناء  علاقات وتجارب مع ثقافات العالم كله. وينبغي صدور قانون يحرّم السرقات والانتحالات ونسخ النصوص والكتب والافلام والمصورات  والعبث  بالامانة الفكرية. 

ثامناً :  وهكذا بالنسبة لمشروع عام يمكن القول : ليس العبرة بالتصميم وجماليته برغم أهميته وانما بامكانيّة التنفيذ وفق الصيغ القانونية، وتستمر الاحداث وصانعوها انها مادة دسمة للنقد ليس لها الا هدف الصالح العام في المجتمع من خلال الثقافة العامة في التاريخ والادب والجغرافية والمعلومات التي  تغطي مظاهر الحياة المتعددة، فقبول الحدث يعني السكون واللاحركة والجمود وبعدها حياة جافة سكونية متدنية  في كل محاورها، وهو ما يغلب على حياتنا اليوم....

تاسعاً : لقد غدت الثقافة والمعرفة اليوم  ميداناً. مفتوحاً  لكلّ الجهلة والطفيليين بعد أن خرجت من سجن رقم (١)، ولا سبيل لها الا الحراك النقدي الفاعل من أجل الارتقاء، فالنقد ضرورة اساسية في التقويم. 

ان الزبد سيذهب مع أهله ولم يبق الا ما يمكث في الارض.  هناك رفض من قبل فئات واسعة في المجتمع للقراءة والمتابعة فمن اين تأتي المعرفة؟ وكيف يمكن تقييم جيل الشباب مع البهرجة والتعالي والنرجسية والأنوية وازدواجية المعايير  مع سايكلوجية مقيتة ازاء الاخرين في ظل انتفاء القراءات  وانعدام ابسط المعلومات وافتقاد الثقافة العامة واللغة المبسطة.. كلها تنعكس بسلوكيات تعلوها الانا وضمن مسميات وتوصيفات كثيرة لا مجال لسردها. 

عاشراً :  لقد نزلت الثقافات عموماً من عليائها وسموها  ومن قوتها  وشخصيتها، كي تكون عادية مبتذلة  ومشاعة.. كما أنها تضخمّت  كثيراً  بحيث تقطّعت أحزمتها، وباتت من الصعوبة ملاحقتها  واذا ابتذلت في  مكان، فقد  تهتكّت في مكان آخر.. واذا  ابتعد الانسان  في الشغف  بها  من خلال كم هائل من القراء والمهتمّين والمحاورين، فهي اليوم لها وسائلها  المفتوحة والمتاحة، ولكن  تفوق  فيها حجم من يكتب ويشارك ويتكلم باسهاب واطناب واقتراف اخطاء  على حساب غياب القراء والمهتمين والمبدعين الحقيقيين .  

واخيرا، فان الحياة الثقافية  العراقية تثوي  راكدة خاملة  تستنسخ نفسها  وتجتر  مواريثها مع تقاليدها الرثة .. انا هنا لا أتكلم عن بعض المبدعين من المثقفين  الرائعين، بل انتقد السياقات كاملة  لمجتمع يزن اليوم أكثر من 40 

مليون نسمة .  


مؤرخ عراقي