الفلبين.. جزر الجنة الواقعة بين نارين

بانوراما 2023/05/17
...

 لورا بيكر

 ترجمة: مي اسماعيل

جرت مؤخرا أكبر مناورات عسكرية على الأطلاق بين الولايات المتحدة والفلبين، والتي بدأت بعد أيام من تدريب محاكاة الجيش الصيني لحصار تايوان، وهو عرض وصفه الأميركان بأنه.. "غير مناسب".. وبتصاعد التوتر في المنطقة، وجد حفنة من الأشخاص من بضعة جزر صغيرة أنفسهم عالقين بين قوتين عظمتين. 

تعتبر الحياة مسألة "هشة" على جزيرة "اتبايات-Itbayat"، فهناك تشكل مجاميع جرف الحجر الجيري شديدة الانحدار والتلال المتموجة لهذه الجزيرة الصغيرة على الحافة الشمالية للفلبين، والتي ترتفع من مضيق لوزون. وحتى في يوم صحو تتقاذف أمواج البحار اللازوردية القوية قوارب الصيد الصغيرة، على أمل اصطياد بعض الأسماك الطائرة المفضلة لسكان الجزيرة.

صمد نحو ثلاثة آلاف من الأفاتان (سكان جزر الباتان الفلبينية) وصيادي السمك والمزارعين هناك بوجه الزلازل والأعاصير والقحط، لكنهم اليوم يواجهون تهديدا جديدا ومختلفا. 

يعاني موطنهم في الجزيرة الآن خطر الوقوع في الصراع بين الولايات المتحدة والصين، إذ تقترب القوتان العسكريتان من بعضهما للحصول على اليد العليا في بحر الصين الجنوبي. 

في قلب هذا الصراع تقع جزيرة تايوان، إذ باتت مطالبات الصين تتزايد بالجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، حتى مع ما يبدو من تعميق التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنها. 

وتلك الجزر (اتبايات وباسكو) التي تشكل أرخبيل باتانيس الفلبيني النائي تقع وسط خط النيران المتقاطعة. 

تبدو تلك الجزر وكأنها مجرد نقاط في المحيط الذي يحيطها، لكن مجاورتها لتايوان (بينهما نحو 156 كم فقط) جعلت منهما حلفاء استراتيجيين وأعداء ضعفاء.

غالبا ما يتحدث المحللون عن التوترات المتصاعدة بين القوتين العظميين، لكن ما هو شكل العيش في أكبر نقطة اشتعال بين بكين وواشنطن؟ 

يمكن ان تصبح جزيرة اتبايات منقطعة عن العالم لعدة أسابيع، ومن المؤكد أنها تبدو غير قابلة للاختراق.. يجري هناك تشكيل الموانئ الصغيرة من المنحدرات، ويتطلب الوصول إلى القارب تسلق درجات شديدة الانحدار على وجه الصخر. 

لون المياه المحيطة بالجزيرة أزرق تركوازي عميق، وهي من الصفاء بحيث يمكن رؤية السمك الصغير يسبح بين الشعاب المرجانية.

تبدو الجزيرة وكأنها لم تُمس بيد البشر، ما عدا مجتمع السكان الأصليين الذين اتخذوها موطنا. 

قلة من السكان يمتلكون تلفازا، وغالبا ما تكون شبكة الرسائل المنقولة من منزل إلى منزل أو من خلال المصلين في الكنيسة أكثر موثوقية من إشارة الهاتف غير المنتظمة. 

لكنهم ليسوا بحاجة إلى أخبار التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي لتخبرهم عن العلاقة المضطربة بين الولايات المتحدة والصين التي تهدد شواطئهم، فهي أقرب اليهم مما كانت عليه في أي وقت مضى.


من يحكم الأمواج؟

أجرى أفراد فرقة المشاة الخامسة والعشرين بالجيش الأميركي تدريبات في جزيرة باسكو، لاختبار خطط الدفاع عن الجزيرة من عدوان محتمل. 

وكان ذلك خلال أوسع مناورات قتالية تم إجراؤها على الاطلاق بين الولايات المتحدة والفلبين. 

وسط البحر، جرى التحكم بالمهمة من سطح السفينة "يو أس أس ميغول كيث-USS Miguel Keith"، بينما حلقت طائرة "في22 أوسبري-V22 Osprey" فوق الجزيرة، ما أثار دهشة السكان المحليين الذين حملوا هواتفهم المحمولة لتصويرها.

كما تضمنت المحاكاة قاذفات صواريخ يتم شحنها إلى الشواطئ باستخدام سفن إنزال برمائية. 

يقول اللواء "جوزيف رايان" القائد العام لفرقة المشاة 25: "الهدف من حملتنا في هذه المنطقة منع الصراع من الوقوع اساسا.

لا نريد حربا مع جمهورية الصين الشعبية، ولا نرغب بها ولا نسعى لإثارتها. 

ولا خير لأحد في حرب مع الصين". 

لكنه يعترف ان القوتين تسعيان لارسال رسائل، قائلا: "رسالتهم تقول- "أننا مستعدون وقادرون وجاهزون. 

لدينا شراكة ممتازة هنا، ونحن جادون". 

يقوم جانبا النزاع بتسليح نفسيهما بالتأكيد، كما هو الحال في آسيا بأكملها.. ما زالت الصين الدولة الأكثر انفاقا على المعدات العسكرية في المنطقة، إذ بلغت ميزانيتها الدفاعية نحو 224 مليار دولار، وهي الأعلى على الاطلاق.

وفي المقابل كانت الولايات المتحدة متحمسة لاظهار قدراتها، منفذة المزيد من المناورات العسكرية مع حلفائها بالمنطقة، ومنهم- اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا. 

لا يقتصر الأمر بالنسبة لواشنطن على استعراض أسلحة براقة جديدة، بل أيضا حول دعم التحالفات. 

وأرسل البيت الابيض مبعوثين أكثر من المعتاد إلى آسيا، آملا بتشكيل تحالف قوي لمواجهة الصين، وهذا يشمل الفلبين التي يشكل موقعها ميزة اضافية.

اعترف الرئيس الفلبيني "فرديناند ماركوس" في مقابلة مع الراديو المحلي مؤخرا، قبل زيارة إلى واشنطن قائلا: "الوضع يحتدم.."، وقرر أن يتخذ نهجا أكثر حزما من سابقه تجاه الصين، وهذا يشمل زيادة دوريات البحرية وحرس السواحل. 

لكن ما يمكن أن يكون دوريات هادئة إلى حد كبير في أماكن أخرى قد يتحول إلى صراع في بحر الصين الجنوبي، إذ إنه حتى الصيد يمكن أن يشعل أزمة جيوسياسية.   


صيادو سمك على خط المواجهة

تدّعي بكين السيادة على بحر الصين الجنوبي بأكمله تقريبا، وهو ممر مائي استراتيجي تمر عبره سنويا تريليونات الدولارات من التجارة، على الرغم من صدور قرار محكمة دولية بأن هذا الإدعاء ليس له أساس قانوني. 

يقول الصياد "سايروس مالوبا" (59 سنة): "اعتاد الصيادون الصينيون على مضايقتنا، ولكن حينما قمنا بإبلاغ الحكومة بذلك قررت القيام بانشاء قاعدة عسكرية في جزيرة "مافوليس" إلى الشمال. 

والآن لدينا دوريات للبحرية الفلبينية". 

بدأت البحرية منذ أواخر العام الماضي مهمة في الجزيرة غير المأهولة، واصفة اياها بأنها.. "أول خط دفاع" للدولة، ورفعت علم الفلبين على أعلى القمم، في عمل سيادي صغير لكن جريء. 

بالنسبة لسايروس وغيره ممن يعيشون في قواربهم لعدة أيام أملا بصيد ما يكفي من سمك التونة لبيعه في السوق المحلي، بات هذا النزاع الجيوسياسي قضية شخصية تتعلق بإطعام عوائلهم. 

يُبلغ المئات من الصيادين الفلبينيين منذ أكثر من عقد عن حوادث ابعادهم من مناطق صيدهم التقليدية في بحر الصين الجنوبي، خاصة في مناطق بحرية متنازع عليها قرب جزر " سبراتلي". 

يقول سايروس: "لا نحصل على كثير من الصيد، لأن الصيادين غير المرخصين لديهم تقنيات أكثر تقدما.

نحن (الصيادون المحليون) نصطاد بالطرق القديمة، مثل الشباك الصغيرة أو الخيط، لكن الآخرين لديهم تقنيات تمكنهم من الامساك بكميات صيد مضاعف وبقدر ما يستطيعون". 

قدمت مانيلا نحو مئتي احتجاج دبلوماسي ضد تحركات الصين في بحر الصين الجنوبي، حيث لدى كل من فيتنام وماليزيا وتايوان وبروناي أيضا مطالب إقليمية متداخلة. 

ويعلق الصياد "فكتور غونزاليس" (51 سنة) بالقول إنه: "من الطبيعي أن نشعر بالقلق، لأن أي نزاع سيؤثر في حياتنا. 

نخاف أولا على حياتنا، ثم إن هناك الهجرة الجماعية المحتملة لأشخاص يأتون إلى هنا من تايوان، علما أن مواردنا محدودة". 

كما هو الحال في جزيرة اتبايات، يعمل فكتور في الزراعة حينما يكون البحر هائجا، ويذهب للصيد حينما يهدأ البحر. 

وتقوم الزراعة فيها على وسائل جني المحاصيل باليد، بلا عون من المكائن أو الأسمدة.

وبدلا من ذلك يتناوب المزارعون على انتاج البطاطا الحلوة والرز والذرة والثوم والبصل، ويمكن للمزرعة الواحدة أن تُطعم نحو 25 اسرة. 

يستطرد فكتور قائلا: "علينا حماية مواردنا لأنها وسيلة عيشنا، وليس لدينا بدائل اخرى.

نريد أن يكون عندنا شيء نوصله للجيل القادم". 

ويبدو اأن تلك المخاوف باتت عميقة ايضا لدى رؤساء الحكومات المحلية في جزر الباتان، حتى انهم أعلنوا البدء بخزن الأطعمة تحسبا لنزاع محتمل.


أسلحة وحلفاء

يصعب التقاط علامات حظر الاقتراب (المخطوطة باليد) التي تنتشر حول قاعدة "كاميلو أوسياس" البحرية على شواطئ مدينة "سانتا آنا"، إذ تبقى محجوبة بين قوارب الصيد الخضر المستلقية على الرمل. 

سانتا آنا مدينة هادئة تقع على الطرف الشمالي من جزيرة لوزون الرئيسية، ويصعب الاستدلال على القاعدة البحرية الفلبينية الصغيرة هناك، التي تحوي (للمفارقة) مهبط طائرات يعطي للولايات المتحدة منفذا للوصول إلى مضيق تايوان. 

وهي كما يصفها حاكم محافظة كاجايان "مانويل مامبا": "انها ليست فعلا قاعدة، ولعلها أقرب ما تكون إلى معسكر الكشافة".

هذه القاعدة واحدة من أربع قواعد جديدة في الفلبين يمكن للقوات الاميركية الوصول اليها بينما يُعزز البلدان تحالفهما العسكري. 

وتوجد اثنان من المواقع الجديدة في محافظة كاجايان الشمالية في مواجهة تايوان.

يمضي حاكم كاجايان مامبا قائلا: "هذه ليست دعوتي ولا دعوة شعبنا، إنها دعوة قادتنا الوطنيين وسوف نلتزم بها.. قد نختلف معها، لكنها (توجد) في الحقيقة لأننا لا نريد الحرب. 

نحن فقراء ولدينا مشاكلنا المحلية أيضا، ولهذا فأن أي دواع للقلق سيكون مشكلة أكبر لنا جميعا".

يخشى مامبا من أن وجود قاعدتين أميركيتين في محافظته سيجعلها هدفا، وكان يتطلع إلى أن يجلب السياح الصينيين إلى المنطقة، أو يبني مطارا دوليا جديدا. 

لكنه يخشى اليوم (أكثر من أي وقت مضى) أن تزدري بكين الفلبين عندما يحتم موقفها ذلك.

وهذا يعكس القلق المتزايد عبر آسيا، فهل سيكون على جهات اخرى الاختيار بين حليف منذ أمد طويل (الولايات المتحدة) وبين أكبر شريك تجاري لهم، هي الصين؟ 

 

 بي بي سي البريطانية