نشالو المتاجر: هل تتوقف عاطفة الأمومة والأبوة على الإنجاب؟

منصة 2023/05/21
...

  وداد سلوم

تتغير المفاهيم الاجتماعية حسب تركيبة المجتمعات الحضارية المحكومة بالواقع الاقتصادي، لكن عجلة الحياة المتسارعة والمتطورة تقضم من الذات الانسانية وتفرض أشكالا جديدة تفاجئنا. فالبنى الاجتماعية حالياً لا تتغير بالسرعة نفسها، التي تسير بها عجلة التطور العلمي والتقني، ما يجعلنا نقف على أزمات اجتماعية كثيرة تضاف إلى العنف والتشرد والفقر وغيرها.

تستهلك حياة الفرد العامة والخاصة ومشاعره وبنية العائلة ذاتها. 

وهو ما يطرحه المخرج هيروكازوكوريادا الياباني  في فيلمه نشالو المتاجر، والذي نال السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2019. 

اعتنى كوريدا دوماً عبر أفلامه بالعائلة اليابانية وأزماتها، فرغم إقرار قانون منع العنف الزوجي وحماية الضحايا  في اليابان عام  2001، سجلت سنة 2017 رقماً قياسياً في عدد ضحايا العنف المنزلي مع العلم أن 3.6 بالمئة فقط من يلجؤون للشرطة،  فالغالبية  تعتبر ما يمارس بحقها طبيعياً ولا تعتبر نفسها ضحايا. 

يطول العنف المنزلي الأطفال أيضاً وقد يأخذ أكثر من شكل.

فالواقع يضغط على أكثر المشاعر حميمية  كالأمومة والأبوة، التي صنفت مؤخراً كغريزة تتمثل لدى الرجل بدوافع الحماية تجاه الأبناء، كما اثبتت الأبحاث أن هرمون الأوكسيتوسين (هرمون الحب) يزداد إفرازه عند الرجال، عندما يصبحون آباء  بازدياد  التلامس الجسدي مع الطفل، لكن هل تتوقف هذه المشاعر على الانجاب؟

لقد رأينا في حوادث كثيرة أطفالاً تم رميهم أو عوملوا بقسوة  من قبل الأهل، بينما قام آخرون برعايتهم وحمايتهم وتربيتهم،  كأهل حقيقيين دون ان تكون هناك رابطة دم.   يقدم هيروكازوكوريادا في فيلم نشالو المتاجر عينة مجتمعية تتمثل بمجموعة من ستة أفراد من الهامش الاجتماعي، تعرضوا للأذى وهربوا من واقعهم لأسباب مختلفة واجتمعوا في بيت يعج ليس فقط بالبشر، بل ايضا بالمقتنيات التي لا تترك لهم مساحة للحركة، مشكلين عائلة لا تربطها ببعضها  رابطة دم، وربما اختارت ان تكون عائلة لتتخفى باللباس الاجتماعي.

فهناك الجدة التي  تعيش على الراتب التقاعدي لزوجها الخائن وعلى مساعدات ابن زوجها. وهناك الأب والأم  التي يستغني عنها رب العمل أما الخالة فهي ابنة ابن زوج الجدة، وقد هربت من أهلها لتعيش على ما تتكسبه في مؤسسة تدير دردشات جنسية على النت، أما الفتى الذي تم الحاقه بالعائلة طفلاً تحت ذريعة انقاذه، حيث تُرك في سيارة متوقفة في الكراج وقد اخبروه بذلك. وهي حوادث يعاني منها الغرب إذ نسمع عن حوادث نسيان أطفال في سيارات مركونة في الخارج واحيانا تحت الشمس.

تعتمد العائلة في تأمين أغراضها على ما ينشله الفتى  والأب من المتاجر عبر خطة محكمة حيث يقوم الكبير بتغطية العملية بينما  يؤدي الفتى  قبل قيامه بالسرقة  حركات هي بمثابة طقس اعتمدوه للتكفير عن عملهم وتبرير السرقة داعمين ذلك، بأن الأغراض على رفوف المتجر ما زالت لا تخص احداً، الفتى بارع يغمره الجميع بالمحبة ويطالبه الكبير بمناداته بـ "بابا" لكنه لا يستجيب ولا يستطيع نطقها فالعلاقة بينهما يطغى عليها  زمالة العمل. والتشارك بالخطر يجعلهما متساويين أمامه، وهنا ينتفي احساس الحماية الذي تلبيه عاطفة الأبوة.

أما الطفلة رين التي يتم التقاطها في طريق عودة (الأب والفتى)، وهي تراقب المارة من حيز ضيق في فراغ درابزين الشرفة في البرد الشديد  بتدليل على فقدانها للرعاية العائلية، ينادونها فتمضي معهم ليكتشفوا آثار تعذيب على جسدها، وحين يحاولون اعادتها لبيتها في اليوم الثاني يتراجعون عن ذلك خوفاً عليها، حيث يسمعون شجار الأب والأم وهما يصرحان بعدم رغبتهما بوجودها أصلاً في حين من الواضح أن الأم تتعرض للضرب أيضاً. ليزداد عدد سكان المنزل واحداً، حيث لكل فرد في العائلة قصة مؤلمة دفعته للتمرد والخروج من عائلته، ولكن أزمتهم لا تنتهي بذلك فهم ضمن سياق عام لا يمكن الخروج عنه.

يشير المخرج إلى أزمتهم مع المجتمع بشكل المنزل الذي  يشبه بيتاً من بيوت الصفيح،  ترتفع بجانبه الأبنية الضخمة، كناية عن هشاشتهم وضعفهم مقابل المجتمع المتحضر، القوي والقاسي ولجوئهم لأساليب غير لائقة في تكسب عيشهم كالاحتيال والسرقة،  لكنهم ورغم الضنك المادي وتجاربهم القاسية يعيشون بسعادة ولطف ويتدبرون امورهم ببساطة عبر السرقة، والاحتيال حيث يقصون شعر الطفلة رين ويغيرون ملابسها بأخرى مسروقة حتى لا تتعرّف الشرطة عليها يتبادلون الاهتمام والرعاية كأي عائلة حقيقية رغم التحفظات، التي يعيشها كل منهم في داخله. وحين يذهبون في رحلة إلى البحر نرى كيف يقترب الأب من الولد الذي يعيش فترة صراع وغيرة من زيادة الاهتمام بالطفلة، فيحدثه عن أسرار النضوج ويشرح له التغيرات الجسدية للمراهق كأي أب حقيقي، ولكنه حتى حينها لا يناديه (بابا)، بينما تترسخ علاقة الطفلة الجديدة مع الأم بصورة حثيثة وتتبادلان الحنان والاهتمام لتعوض الطفلة كل ما كان ينقصها مع أمها الحقيقية. وللاستمرار يتوجب على الطفلة أن تتعلم السرقة أيضاً.  

يعيش الفتى المراهق مشاعر متناقضة، ويرفض ان تدخل الصغيرة هذه المخاطرة فهو اولاً يغار ويخشى ان تنافسه على محبة العائلة ومكانته فيها، ثم إنه يخاف عليها نتائج ذلك. كما تتصارع في داخله الأفكار والشكوك بأنه قد وصل إلى العائلة بذات الأسلوب ينكر الأب ذلك بذريعة الانقاذ ولكن هل يبرر ذلك احتفاظهم به ليقوم بالسرقة؟ لقد خرج الكبار عن قيود المجتمع والعائلة، لكن الأطفال تم زجهم بهذا السياق دون أن  يؤخذ برأيهم، تنتهي صراعات الولد بقرار تسليم نفسه للشرطة فيقوم بافتعال  ضجة أثناء السرقة مع  الصغيرة، ويتم القاء القبض عليه بعد أن تكسر ساقه  أثناء قفزه عن الجسر.

تحاول العائلة الهرب حين تعلم بإلقاء القبض على الصغيرين لكن الشرطة تكون أسرع. فتخبر الشرطية الفتى برغبة العائلة بالفرار وتركه وحيداً، وهو ما لن تفعله العائلة الحقيقية، ليهتز انتماؤه لهم ويخبر الشرطة بكل شيء.

تتحمل الأم المسؤولية كاملة، حتى جريمة قتلها لزوجها الأول، والذي كان يقوم بتعذيبها، مع الشخص الذي اخذ دور الزوج و الأب في ما بعد، ودفنه في أرض الدار. كما دفنوا الجدة التي ماتت فجأة، لأنهم لا يملكون ثمن القبر ولا المال اللازم لإحراق الجثة.

  لعل الأم  تدرك أن هذا النمط من الحياة لا يمكن الاستمرار فيه فهو ليس حلاً، بل يجب أن يكون الحل عبر بوابات المجتمع، الذي وطد بنيانه عبر مئات السنين في رسم علاقاته الاجتماعية والقانونية ومؤسسات الدولة، وحين تطلب أن يزورها الفتى الصغير تخبره عن رقم السيارة، التي أخذوه منها وموقعها عله يجد أهله. 

لكنه لا يفعل بل يقضي يوما كاملاً مع الأب في التنزه وصيد السمك ويتبادلان الأحاديث الصادقة والرعاية والحب،  ويواجه الأب بمحاولة تركه والهرب وعلى غير المتوقع لا ينكر الأب ذلك.

 يعيش معه لحظات عاطفة صادقة وحقيقية يناديه بـ "بابا"، ولكن بعد أن يغادره ودون أن يسمعها الأب، الذي استحق هذه الكلمة في النهاية بجدارة.

لحظات مؤثرة ترصد نضوج علاقة الأمومة والأبوة بالصدق والرعاية والاهتمام، وفي حياة محترمة وحقيقية يختارها الطفل ذاتياً دون أن تكون مفروضة.

في المقابل نلاحظ حاجة كل الشخصيات وعوزهم للعناية والحب والاهتمام وهو ما يفتقدونه في ظروف الحياة الصعبة، فإيقاع الحياة القاسي يشوه العلاقات الاجتماعية الحقيقية ويسلب الفرد قدرته على منح الحب وإدارة علاقة حقيقية ناجحة، فالشاب الذي يمارس الجنس مع الخالة عبر النت، يطلب لقاءها لنجد أنه يتلكلك بالحديث وربما لا يملك القدرة على الكلام، لكنه يكتفي حين اللقاء بالنوم على ركبتها، إنه مجتمع ذكوري عاجز، ويفتقد الامان والطمأنينة الروحية بينما يتجه إلى العنف النفسي والجسدي.

تعود الطفلة رين إلى أهلها الحقيقيين لنجد أن أمها ما زالت تتعرض للضرب، لكنها تحاول أن تغير أسلوبها مع الابنة التي خبرت احساس الأمومة مع الأم البديلة في تلك العائلة، ويبدو انها قادرة على محاسبة الأم وتغيير سلوكها عبر المبادرة وادراكها لما تفتقده، لنرى الطفلة في النهاية لم تعد تنظر إلى الشارع من فراغ الدرابزين في الشرفة، بل باتت تطل من الشرفة على الشارع، وفي النهار وهي تغني ما علمته إياه تلك الأم.

ربما صقلت التجربة الطفلين فاستطاعا الرؤية بوضوح وتحديد اهدافهما بطريقة الحياة التي يريدونها.

يوظف المخرج عدسة الكاميرا في كل مشهد بذكاء، للتعبير عن شخصياته فالاكتفاء بتصوير الشخصيات وتهميش المحيط في الصورة في النصف الأول من الفيلم، حيث تغدو صورة الممثل طاغية وقريبة  كناية عن تعميق أزمة الفرد وطغيانها على علاقته بالمحيط. 

كما أن مشهد الجدة على الرمل وهي تسكب الرمل على قدمها يوحي برغبتها بدفن الآلام، وما تركه الزمن من آثاره ممضه. البيت الذي يعج بالأشياء وحركة الشخصيات المحدودة بسببها تخبرنا عن تكبيل الأفراد والتضييق عليهم من قبل المجتمع، الذي يعج بما لا يحتاجونه من ادوات حديثة لكنه لا يمنحهم الأمان والحرية.

في مشهد خروجهم لمشاهدة الألعاب النارية يقوم بتصويرهم  من الأعلى، نسمع صوت الألعاب النارية ولا نراها، لكننا نرى وجوههم الباحثة عن ضوء ضائع أو متعة مفقودة.

في النصف الثاني من الفيلم وبعد عودة الشخصيات إلى مكانها الحقيقي في المجتمع يختلف التصوير، فنراهم جزءا من محيط عام يتحركون بطبيعية وببساطة بين الآخرين.  

يوضع الطفل في دار رعاية حيث يتم تعليمه وتربيته ليشق طريقه، الذي اختاره منذ قرر أن ينخرط في الحياة الحقيقية للمجتمع ومغادرة الهامش، الذي فرض عليه رغم أن ذلك ليس سوى رهان على  الأمل.