النسوية: مساواة أم معاداة؟

منصة 2023/06/12
...

  د. نادية هناوي


تعني المساواة التعادل مع آخر هو مثال ينبغي بلوغه والتشبه به. وما من أمر يقتلع الفكر النسوي من الجذور ويغيبه مثل أمر النظر إلى النسوية على أنها مناداة شعاراتية تعني نيل المساواة كهدف لا ثاني له، فيه تختزل المرأة تطلعاتها في الجنوسة والقيمة المجتمعية والمواطنة.  ولن يسفر النظر إلى النسوية عن أي جديد ما دامت هي في فكرها وأغراضها تعني المساواة، وستظل النسوية محجمة الكينونة من جهة ومعاقة المكونات من جهة أخرى فلا تطلعات مستقبلية ولا تراكمات تاريخية إلا والمساواة هي الحكم والفيصل، حيث النموذج الذكوري هو المأمول بلوغه. أما مسألة استرجاع ما للنسوية من فكر وتاريخ فمجرد أمر ثانوي إن لم يكن هامشيا وبلا أهمية.
وما طرأت فكرة المساواة إلا كجزء من العنف الرمزي والمادي المتولد من استعباد الرجل للمرأة، والذي مارسه النظام الذكوري بحق النسوية على طول مراحل تشكله كنظام أوحد وسلطة ذات وصاية.
من هنا يغدو مطلوبا من النسوية أن تؤسس لنفسها ـ كمجموع وآحاد ـ صورة نموذجية متفردة بخصوصية، تخلصها من شوائب التهميش والمصادرة والعنف.
وبهذا فقط تكون النسوية قد أدت دورها في الدفاع عن المرأة وأعادت لنفسها حضورها في مناهضة الذي يهمش خصوصيتها أو يجعلها تسعى إلى أن تكون هي والرجل سواء.
وهو أمر يتعارض مع حقيقة التكوين الفسيولوجي والبايولوجي القائم على الاختلاف مما يرفضه الموقع الطبيعي، لكل من الرجل والمرأة داخل الاسرة كمؤسسة منها يتشكل بناء المجتمع.
ولا خلاف في أن احترام الانسان لإنسانيته هو في اعتداده بذاته، وبكل ما تكون عليه هذه الذات من اختلاف يتطلبه جنسها كأنثى أو ذكر.
وبحسب الجنس تتحدد الأدوار بين الرجال والنساء داخل المجتمع وليس بحسب القيمة أو الأهمية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الاعتقاد ما زال ساريا بأن الفكر ليس مطلب النسوية، بل المساواة مطلبها وبها يفهم دور المرأة السياسي والاجتماعي.
ولو استجمعنا دعوات المساواة ودعوات التمكين لتبين لنا حجم الإشكالية النظرية في فهم النسوية كفكر وفي تقدير أهميتها كفاعلية ومنهج بهما ينبغي أن تتفرد وتستقل عن أي فكر بطريركي أو وصاية ذكورية.
وإذا قيل إن المساواة تظل قائمة مطلبا من مطالب مركزة النسوية، فسنرد بالقول إن السبب إذن ليس في الرجال وحدهم، بل معهم النساء اللائي يؤمن بأن المساواة مع الذكورية هي الطريق الوحيد الذي من دونه تبقى النسوية بلا قيمة ولا مركزية.
وهذا شكل آخر من أشكال ازدراء الانثوية لحالها والقبول بالتبعية والمنزلة الثانوية،  فيكون الرجال مهيمنين بكل ما تعنيه الهيمنة من سلطة وتسلط. ومن ثم تصبح المساواة مع الذكورية هي نوع من التسليم لهذا الواقع الذكوري برجاله الغالبين ونسائه منزوعات القدرة المستكينات المطمئنات إلى آخرين يتولون عنهن اتخاذ القرارات. وليس خطر مثل هؤلاء النساء على النسوية بأقل من خطر الذكورية عليها.  
وإذا كان هذا الحال المزدوج يشطر النسوية إلى شطرين: شطر مظهري يتبدى على السطح وآخر عميق يتبدى في الباطن، فإن المساواة تجعل النسوية قيمة وقدرة بلا فاعلية. ومهما عملت وسعت وناضلت، فإنها تظل في مكانها باحثة عن موقع خلفي في المجتمع. من هنا يكون حريا بالنسوية أن تحدد مواقع فواعلها: المفرد كامرأة والمجموع كنساء نظريا وعمليا.  
وتتعدد العوامل التي تجعل المفكرين يقارنون جنسا بجنس ويريدون لأحدهما أن يتشبه بالاخر اجتماعيا وطبيعيا. وهو ما يدفع النساء إلى التمرد على نحو جماعي. فكيف بعد ذلك ينظر إلى النسوية على انها صوت يعبر عن رغبة النساء في المساواة بالرجال الذين كما يقول جون ستيوارت ميل( لا يريدون طاعة النساء لهم حسب، بل يريدون مشاعرهن أيضا.)
وهذا ما ينبغي أن تسعى النسوية إلى وضعه في إطار علمي فتتبع بنفسها أمره، وتقوم بدراسته دراسة فكرية نابعة من الشعور بقوة الاختلاف الجنوسي. وعلى الرغم من ذلك فإن التصور السائد هو أن النسوية تعني المساواة وأن المساواة مطلب نسوي عام.
وكأن ما من سبيل إلى توافق الجنسين إلا بتماثل أحدهما مع الآخر، كنوع من التبرير غير المنطقي للفهم الخاطيء للنسوية الذي من تبعاته كثير من الممارسات والسلوكيات المنحرفة والشاذة وغير الطبيعية، التي بها تستلب إنسانية الفرد وتتشوه، فلا استقلال ولا قوة ولا إرادة البتة.
ومن صور هذه الممارسات المماثلة بين الجنسين في طرائق الحركة والهندام والكلام، فتحاول النساء تقليد الرجال ويحاول الرجال تقليد النساء، وتكون الميوعة بادية عليهم وتكون الخشونة بادية عليهن.
والأخطر من ذلك حين تكون المساواة ذريعة نحو المماثلة في الجنس، فيشكل المتحولون جنسيا مجتمعا لوحدهم، ويصبح للمثليين عالمهم كمسلك نفسي غير سوي، بسببه يختل النظام البشري وتفقد المنظومة المجتمعية اتساقها الطبيعي والأخلاقي، الذي مصدره اختلاف الجنسين وليس تساويهما.
وهو أمر تنفر منه الأعراف المجتمعية والطبيعة البشرية.
ومن النسويات اللائي نظرن إلى النسوية بسلبية، بوصفها هي المساواة "جوديث بتلر"، التي رفضت الاختلاف بين الذكورية والأنوثة وأخذت على التوسير أنه لا يقدم دليلا على الأسباب، التي تدفع الفرد إلى القبول بالخضوع لصوت القانون والضمير وتأثير هذا القبول في تدشين الذات الاجتماعية.
وافترضت هذه الذات مذنبة وأن الاقرار بالجنس المغاير هو تخريب للهوية من خلال الجندر، وفاتها أن المساواة هي التي تخرِّب الجندر وتشوه الهوية المؤنثة والمذكرة معا.
إذن لن تبلغ النسوية مبتغاها ما لم يكن لها وعيها الفكري، الذي به تضع العمومية في مقدمة أولوياتها كإضافة فكرية بها تترابط المفهومات وتتجاور المبتغيات فتصنع عقلا نسويا يفكر بأنثوية، ويؤنث بأمومية، ويستكنه الظواهر، ويكشف عن الخفايا، فيكون للمرأة في النسوية وعيها الفكري وتكون للنساء في النسوية قيمتهن التاريخية.
وهذه هي (النسوية العمومية) بوصفها مفهوما إجرائيا يبتغي إصلاح الوضع المتدني للنسوية كفكر، ويعالج إشكالية معقدة مركزها النسوية وأطرافها التي يحددها موقع المرأة من المرأة وموقع النساء من المرأة.
وتبدأ هذه المعالجة من أول تاريخ فيه كانت للأم مكانة في أسرتها، وتنتهي عند وضعها الراهن الذي فيه تمارس دورها لا كتابع بل ككيان له أن يؤرخ ذاته أو يفلسفها.
ولطالما كانت التأرخة والفلسفة مخصوصتين من سالف العصور بالسلطة الذكورية، التي تحتكر ممارستهما وفيهما للرجال وصاية. ومهما عملت المرأة وحاولت، فإنها سائرة في الطريق نفسه كتالية للرجل ومقلدة له.
ومن يقرأ فكر حنة ارندت أو سيمون دي بوفوار أو جوليا كريستيفا وعشرات غيرهن، فإنه سيعرفهن من خلال النظام العام الذكوري، سواء تناولن النسوية أو لم يتناولنها.
وهذه الصورة واحدة من صور كثيرة تتولد من تصور أن المرأة المفكرة تريد مضاهاة الرجل المفكر والتساوي معه، بينما العمومية هي التي تظهر ما للنسوية من أهمية كموضوع له رسوخ ويصب في صالح النسوية وانجازاتها.  
ومعالجة النسوية العمومية للمساواة يعني تصحيح الفهم المعرفي للنسوية نفسها من خلال تحديد طبيعة مكونها النظري وضرورة أن تكون له استراتيجيات عمل، منها تتشكل فلسفته وبها تتكشف حقيقة النسوية.  
فتنجو من التابعية وتتخلص من الدونية ويتأكد عمق وعيها بأهمية تفردها كفكر ونظام وتاريخ  وقوة وقدرات.
فلا استكانة إلى مساواة، ولا خطر في المنافسة من طرف المغلوب، ولا ازدراء في التسلط من طرف الغالب، الذي لا يريد للاختلاف أن يظهر، بل يريد للتشابه أن يسود.
والاختلاف الذي تسعى بعض النساء إلى تحويله إلى مساواة، هو الذي يغيّب صورة المرأة القوية، ويظهر بدلها صورتها كمتهمة بالعدوانية وكراهة الجنس الآخر.
 وهو أمر بالتأكيد يقلل من فرص الفكر النسوي في الظهور معيدا النسوية إلى المربع الأول الذي فيه المرأة كيان غير مرغوب فيه بل مغترب عن ذاته عقلا وجسدا.
وإذا تتبعنا الأدبيات الانسانية فلن نجد فكرا ذكوريا يناصر اختلاف المرأة عقليا وجنسيا، بسبب ما يراه في الاختلاف من قوة ولذلك يناهضه ويظهر كراهيته له.
وكلما تغلغلنا في تاريخ العصور القديمة وجدنا أن الاختلاف فاعل قوي، ومنذ المجتمعات الاولى، أعطى اختلاف المرأة فاعلية مركزية وقوية تشهد على ذلك أساطير الخلق والبعث والتكوين.
وعلى الرغم من تشويه الملاحم لهذا التصور الاسطوري الايجابي للمرأة لكون الملاحم دونت في زمن صارت فيه الغلبة للذكورية، فإن بعض ترسبات العصر الامومي نجدها مبثوثة في ملحمة جلجامش، لا سيما في دور الآلهة ننسون أم جلجامش، والامر نفسه نجده في الملاحم الهومرية التي فيها زادت اختلافية المرأة من شرورها، فكان لا بد للرجل أن يكبح جماحها كالابن في الاوديسة، الذي بدا هو السبب في ما أدته أمه من دور قيّم، وأنها بسبب أوامره ونواهيه صارت حكيمة وعبرت عن حكمتها بالصمت والنسج تقضي وقتها منشغلة بالاعمال المنزلية.
ومهما يكن الأمر، فإن الاخلاق تبقى أبعد من مجرد كونها السبب الوحيد بل هناك اسباب اخرى وهي بمجموعها تمنع بقصد أو من دون قصد المرأة من ان تُظهر اختلافيتها فلا تكون لها قيمة إلا بالمساواة مع الرجل، باعتبارها الطريقة الوحيدة التي تعيد للمرأة وضعها الحقيقي.
وإذا كان الاختلاف سببا مهما في كل ما واجهته المرأة من دونية وانتقاص، يغدو من الطبيعي اذن أن ينفر المفكرون من الانثى ناظرين إلى اختلافها بكثير من الدونية، ومنهم جان جاك روسو الذي وسم المرأة بالسلبية والخضوع والاعتماد على الاخر والاحتشام والخجل ونقص العقل والحساسية. واعتبر ذلك كله خصائص منحتها الطبيعة للمرأة.
وعلى الشاكلة نفسها من تشويه فاعلية اختلاف المرأة عبر نسبة الشر إليها، تندرج عشرات الأعمال الشعرية والسردية التي فيها نجد تجسيدا لفكرة أن في اختلاف المرأة خطرا.
وأن من الضروري أن تكون الهيمنة من جانب الذكورية فتكون المطالبة بالمساواة من جانب النسوية.
وعادة ما تمرر مثل هذه الأفكار تحت يافطات أخلاقية كنوع من التغطية لتلك الممارسات التي بها شوه النظام الذكوري معنى النسوية وقلل من جدواها.
وبمرور الزمان أصبح الصمت والقبول والاقتناع والخضوع من تبعات الاختلاف وحسنات التجمل بالأخلاق، التي بها تستحسن شخصية المرأة، ومن دونها لا تستحسن.