الحرب بعيون صبيَّة عربيَّة

منصة 2023/06/13
...



















  بيتي فرح

لم يعد فنجان قهوتي الصباحي يدغدغ مزاجي كما الأمس، حتى بت أتساءل أيعقل أن تمل القهوة كما البشر حتى فقد الهيل نكهة النشاط؟ هل هرمت ضفيرتي حتى لم تعد تغازل نور الشمس وتعاند ريح النافذة؟ هل نزحت مني الحياة في غفلة الحرب الشمطاء؟ يلبسني حنين إلى وطن لم أغادره وأتأمل جواز سفري المهدد بالقتل. أي غبي يقول إن الحروب تنتهي؟

المؤرخون فقط هم من يدونون تاريخ اشتعالها وإخمادها في الكتب، ليجتر التاريخ ذاته في مكتبات الأوطان الجائعة للخبز والكرامات، يتذبذب السلام في هذه البقعة، نشأنا على أننا دول قوية الأعراف السياسية والعسكرية والأمنية، لم نكن مهيئين لحرب الترقب، ولم يحالفنا حظ التأقلم مع الخوف والأمل، ازدواجية شبيهة بقرارات حكوماتنا التي ترتوي من خوفنا، ونشبع نحن من بياناتها.

تعج مدننا بكثير من الأشياء وبعض من حياة، في أحياء تلاصقت بيوتها بحميمية خبيثة، وكأن الحائط الصغير ابن الحائط الأكبر من علاقة غير شرعية، تحت عباءة الجيرة والمودة، عباءة تخبئ تحتها الكثير من حكايا نساء ورجال الحي الرمادية. فقط شجر النخيل شاهدا أمام هذا الاجتياح الاجتماعي والعسكري المقيت.

تدق الساعة البيولوجية لصوت أمي، تردد شعارها الصباحي "ياأولاد اكتبوا حاجاتكم على ورقة، الخروج من البيت ممنوع" طبعا ممنوع تحت طائلة احتضان صاروخ عابر للجسد، هكذا ترجمت صديقتي شهد جملة أمي قائلة: "بشع أن تموتي أشلاء ويجد جارنا طارق الذي تمقتينه، إصبع قدمك الصغير، أو تأكل ما تبقى من جسدك قطط الشوارع المتوحشة".

أجمل الأوقات عندما أصعد إلى السطح المتاخم لسطح منزل شهد، نختار ركنيّة تقينا الرصاص المفاجئ، ونستجدي الموت أن يأخذ استراحة محارب ريثما نعود، من على السطح نراقب المدينة المصابة بداء الزعامات، وعلى يقين أنها خائفة هي الأخرى، أودّع شهد بحرارة كأنه وداعنا الأخير فلربما تخترقنا رصاصة كالتي اخترقت خاصرة الهوية، لنلتقي في اليوم التالي ونحتفل أننا ما زلنا أحياء في بلاد الرافدين أو بلاد الشام.. بعد أن وحدهما الخراب.

في البلدان العربية يُخلق الطفل ليكون مشروع شهيد، شهيد الجوع والتكفير، شهيد اعتناق المبادئ التي تتنافى الكتب المترجمة، يُؤَجل تسجيله في بيانات القيد تبعا للطقس والمواصلات وعطلة الأعياد، وفي الحروب يؤجل تسجيل وفاته تبعا لتاريخ احتفالات النصر.

يغمرني الحنين إلى وطني وأنا فيه، أشتاق إلى أمس يعيدني إليه وهو هنا، فأشتاق إلى نفسي أيضا، كنت أخاف السفر لاعتقادي أنني بمجرد أن خرجت منه، سينالني قسط من الذل، فتمسكت بحبل الانتماء الذي تحول إلى حبل مشنقة، لألملم قناعاتي لاحقا وأعيد ترتيب فوضى التاريخ في عقلي. وأتمتم شاتمة: من الحب ما قتل؟!.

كاذبة من تدعي أنها تكره الشاعر الدمشقي نزار قباني، بسبب غزله الفاحش، ولأن وصفه للمرأة خادش للحياء. معظمنا نحن النساء كاذبات، ترعرعنا على الكذب بنكهة الأعراف، وكانت مساحيق التجميل سقف اهتماماتنا.  

نعم.. كاذبة من لم تسكرها قصائده، وهي التي تعيش في صحراء الروح العربية كما الجسد، في بلد مصيره أنه يبسط ذراعيه للشمس والغيوم في آن واحد، لنُجبر على اختلاس لون الشمس من الرمادي أيضا.

في معظم لياليَّ العاتمة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، كنت أتحايل على نفسي لأتوازن قليلا، وأهرب من صوت القصف المخيف، فأضع سماعة جهازي النقّال في أذنيّ وأستدعي الغيبوبة تختطفني إلى بغداد ودمشق والقدس، إلى دجلة والفرات قبل أن تتسخ بوحل القرارات. أتخيل شجرة النخيل عضواً في لجنة تنظيم مسابقة للشعراء، وينجح قباني بفضل دعمها. لترتج غرفتي بفعل القصف البعيد وتغادرني غيبوبتي الآمنة وأنا أجتر قول نزار: "إن الوطن كما المرأة بحاجة إلى التحرير" لأنسكبَ في وعاء عروبتي معه، وتتذوقني جميع الأمم.

في صباح اليوم التالي صحوت على صوت الضوضاء في الخارج، ناس تهرول وتتداخل أصواتها مع صوت الرصاص. صباح يوحي أن أول بند في قائمة ممنوعات أمي اليوم "ممنوع الذهاب إلى الجامعة" وهذا يعني أنه نهار طويل ممتلئ بالأعمال المنزلية المملة.

منذ بداية الحرب ونزوحنا من المنزل، بت أشبه حقيبة ملابسي المبعثرة، أجتهد لتجميع بقاياي، فينتج مني فوضى مرتبة، لا بأس نتيجة جيدة في "عصفورية" الواقع هذا. كما تكهنت تماما.. اليوم لن أذهب إلى الجامعة بقرار من أمي التي تجاوز خوفها حد الطبيعي وتحولت إلى ضابط عائلي، تهاب جميع المداهمات حتى المفرح منها، "الحجيّة" هذا الكائن الذي هرم في غضون أشهر، فالحرب كما الرجال، تغتصب حياة النساء قبل حيائها، شكرت الله أنني لم أتزوج بعد، وأعيش تجربة الخوف على الأولاد، رهيب أن ترى الذعر في عيون الأم وهي تودع ابنها حتى الباب، تتوسل بصلاتها أن يعود ماشياً على قدميه، لا محمولا في نعش تلطّخ بدماء الفرقاء.  

أمي السيدة دعاء، اسم على مسمى، لم أستطع كبح ضحكتي العالية بعد انتهائي من قول طرفة لها ورؤية وجنتيها الحمراوين، تنظر إليّ واضعة كف يدها على فمها وتضحك بخجل بنت بعمر الزهور، هبّت مغادرة وسمعتها تتمتم "آه من جيلكم"، أقسم أنها طرفة عادية، لكن من أين أجلب كلمات فكاهية تتساوى وطهر أمي؟ وانا التي ربّتني الحرب أكثر من دعاء. 

أكمل تقشير البطاطا التي صارت غذاء شبه يومي لنا، لأنها الأرخص بين الخضار.  

يجتاحني هذا السؤال دوما: كيف تبدأ الحروب وجميع الفرقاء صرّحوا بحبهم للوطن؟ والنتيجة هجرة النخيل والياسمين من التراب أو إليه. وفي كلا الحالتين تصاب البصيرة بالشلل، لقد أصبحنا من مقتنيات الحرب.