بأثرٍ رجعيّ!

الصفحة الاخيرة 2019/04/25
...

 جواد علي كسّار
 
في الحديث النبوي الشريف ان الإنسان يُصبح أو يُمسي على ثكل، خير له من أن يُصبح ويُمسي على حرب؛ والثكل هو فقد العزيز ولاسيّما الولد، والحرب هنا بلغة العرب، هي ذهاب المال وخسارته وفقدانه؛ فكيف إذا وَجد الإنسان نفسه، قد فقد ماله الذي جناه طوال عمره وكافح من أجله حياته كلها، مرّة واحدة وبالكامل، مُضافاً إليه تجريده من انتمائه وجنسيته ومصادرة وثائقه جميعاً، ثمّ والأمضّ من ذلك أن يرى نفسه مرمياً على الحدود، ما له من دنياه إلا ملابسه الشخصية، وبضاعته الوحيدة ما يحمله في جيبه من نقود؟!
ليست هذه قصة أو أسطورة أو حكاية من أوهام ألف ليلة وليلة، بل واقعة حدثت في بلدنا قريباً، ومرّت ذكراها صامتة صمّاء، وسط صمت خائف مداهن، للسياسيين من جميع الاتجاهات والمكوّنات، وسكوت غبي مطبق لوسائل الإعلام ومنابر التواصل، خلا إشارات نادرة وإيماءات بعيدة خجولة!
بدأت القصة حين دُعي (850) تاجراً بغدادياً لحضور اجتماع مهم في غرفة تجارة بغداد، بتأريخ 7 نيسان 1980م، مع تنويه بإحضار المدعويين جميع المستمسكات القانونية ودفاتر الصكوك، وقد ظنّ المدعوّون أن الهدف من وراء الاجتماع، أن تعرض عليهم الدولة المشاركة في مشاريع اقتصادية واستثمارية. بيدَ أن ما حصل بعد اكتمال وصول التجار إلى القاعة، مبادرة رجال الأمن لمصادرة وثائقهم، والدفع بهم مباشرة إلى حافلات خاصة، وترحيلهم إلى منطقة «مندلي»، ومنها دفعهم بقوّة التهديد بالسلاح، إلى الجانب الإيراني مشياً على الأقدام!
ثمّ توالت فصول القصة بعمليات تهجير قسري لعوائل هؤلاء التجار وغيرهم، بعد مصادرة أموالهم وممتلكاتهم ووثائقهم وحجزهم، تمهيداً لرميهم خارج الحدود، حيث كان الحجز بين أربعة أسابيع إلى شهرين، ريثما تصلهم «النوبة» بالدفع بهم إلى الجانب الإيراني مشياً على الأقدام، تحت وابل من الرصاص فوق رؤوسهم لتخويفهم، وتهديد من يتلكأ أو يفكر بالعودة منهم بالرمي المباشر!
امتدّت هذه الحملة الى عوائل كثيرة من ديالى شمال بغداد إلى البصرة جنوب العراق، وقد شملت مئات الآلاف، في تقدير أدناه (350) ألفاً، وأعلاه (600) ألف، خلال السنين 1980 - 1982م، مع احتجاز الذكور بين سن 18ـ 35، وذلك عدا من اندفع إلى الحدود الإيرانية في محن الأنفال 1988م، وما بعد الانتفاضة 1991م، وفي إبّان الحصار.
لقد أصيب هؤلاء بالآلام جميعاً؛ آلام فقد الأموال والأولاد والممتلكات والوثائق، وصُبّت على رؤوسهم كوارث الغربة وفواجعها، وحقّ هؤلاء الإنساني والمادي والمعنوي لا يسقط بالتقادم. لكن الغريب أن لا صوت يعبّر عن مآسيهم، مثلما حصل مع الشهداء والسجناء وجماعة رفحا وغيرهم من المظلومين والممتحنين، عسى أن يكون في هذه الكلمات ما يدعو إلى فتح هذا الملف الموجع إنسانياً، والكشف على الأقل عن مصير خمسة آلاف شاب من عوائل هؤلاء، لا يزالون مجهولي المصير!