ملامسة الوهج الشعوري والحسي في (أخطاء تروضها الموسيقى)

منصة 2023/06/22
...

  علوان السلمان
من الوجود المجتمعي والطبيعة الكونية يستمد الشاعر كينونته وحيوية وجوده، واكتشاف ذاته الخالقة لصورها الشعرية المستفزة للمستهلك (المتلقي)، من خلال شحنها بالرموز والدلالات، التي تبعث في جسدها الروح.. وتستدعيه لفك شفراتها واستنطاق ما خلف صورها الشعرية، التي تتسم بالوعي الذي أساسه الموقف الفكري والرؤية الموضوعية، التي تحقق انسانية الانسان ووجوده وحريته في تمثيل الاشياء وتمثلها وما تحس به حواسه ويكتنز به فكره..

لذا فالتعامل معها يتطلب قدرا من الوعي لإدراك ما توحيه من مواقف انسانية وجمالية وما تطرحه من قيم.. كون الشعر حاجة وجودية تشكل موقفا ازاء العالم، فتتأكد فيه إرادة الانسان في تغيير الواقع بأسمى درجات الحرية (التي هي وعي الضرورة).. والتي تتجسد في طرح القيم الفكرية المتحولة باستمرار، والتي لا تعرف السكون أو الثبات.
  ومهدي القريشي في مجموعته الشعرية (أخطاء تروضها الموسيقى) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2022. تكشف عن شاعر يحاول أن يبرز قدرته على التقاط لحظات الواقع بشكل خاص، مع قدرة على الديمومة بما تمتلكه قصائده من قدرات على التجذر بفضل اصالتها الشكلية واللغوية والرؤيوية..  ففيها يستعير الشاعر بعض مظاهر الطبيعة ليستعين بها على أداء المعنى..  وقد تنمو هذه الاستعارات بشكل صور فنية مؤدية غرضها الدلالي.. اذ الربط بين المشهد الطبيعي وحالة الشاعر النفسية.
نحن الذين ترفض الأرض
أن تلامس أقدام بيوتهم
.................
الذين تتباهى السماء
ببعدها عن أسطح منازلهم
............
معلقون كأضاح
توزع مجانا في المواسم/ ص5
 فالشاعر بانتمائه الجماهيري صار اكثر تماسكا في مواجهة خوفه من الواقع المحدق به.. فكان خطابه الشعري يتركز على مخاطبة القوى الوجدانية لإثارتها.. اذ كانت بعض قصائده تنتمي إلى جنس الرثاء.. حتى أن حضور الآخر في قصائده يمثل الهموم المشتركة، التي تمنح نصه قدرا من الشمولية والاتساع في الحركة ليدخل في ذاته، ويصبح شيئا واحدا..  وبهذا يأخذ بعدا رمزيا يغطي مساحة القضية، التي يعيشها الشاعر ويعمقها، فضلا عن تحريك الجمادات والثوابت الطبيعية وتوظيفها وعناصرها توظيفا نفسيا..
ليس من الحكمة
أن تصطاد ضحكته المتكئة/ على جناح سوسنة
أو تروض وصاياه المرتبكة/ كثمرة تنتظر القطاف
أو تلبسه قميصا جنائزيا
سيتقيؤكم/ الواحد تلو الآخر
فشهيد الكرادة/ ما زال أنيقا
ونهاره مزدحم بالأحلام    /ص7 ـ ص8
فالنص يلامس الوهج الشعوري والحسي للمنتج مع نفاذ إلى الروح الداخلة للموجودات، كي تشاركه خلجاته وتتفاعل مع عواطفه.. لذا ينساب صوت الشاعر خافتا حزينا في ايقاع نغمي بطيء، يتناسب وتصوير اللحظات المثقلة بالحزن.. فصوت الشهيد في نصه دعم لمسيرة النضال، من خلال الانتقال من نغمة التوتر الحزينة إلى النغمة الغنائية المتفائلة، التي من خلالها تستطيع الكلمات الكشف عن اللحظات المستقبلية، التي تفصح عن رؤية الشاعر. إذ إنها عنده اتجاه نحو الآخر.. اضافة إلى ذلك أنها رسالة اجتماعية لإحياء الارواح الميتة وتفتح الافكار على العتمة والكشف عن المجهول..  وهذا يعني الانتقال من لحظة مواجهة الموت إلى حالة الموت الفعلي وكشف حجاب الرؤية، بعد ان وجد المنتج اللذة في قرارها، لأنها ستخلق واقعا جديدا او تحقق حلم الشاعر.. كون الشهادة هي طريق الحياة.. وهذا يجرنا صوب قول الشاعر الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر).
ـ كلما يعطش(الغراف)
تتسابق السماء في تليين حنجرته
فينادي على السمك
بالعودة لمآوى الرب

ـ لم نعد نعرف اخبار الأسماك
جيوب النهر مثقوبة
والغيمة الصغيرة تبحث عن حنجرة الماء
ما معنى ان يكون للنهر حنجرة
والاسماك تثرثر امام الشباك/ ص66ـ   ص68
  فالشاعر يقيم صوره الشعرية على مجموعة من المتناقضات.. كونه يصور الصراع النفسي الحاد الذي يتولد في نفس الانسان من جراء ضغط هذه المتناقضات..  مما يبلور عنده الوعي بضرورة رفض الواقع والثورة عليه حد الاستشهاد.. لذا يوظف أفعالا متوترة ومتفجرة بالألم (يعطش ـ تتسابق ـ ينادي ـ نعرف ـ تبحث ـ تثرثر..)..  وهي ترسم بتتابعها الزمني وتداخلها صورة مؤلمة لتلك اللحظة، التي تشكل بؤرة النص التي تنطلق منها وتتجمع فيها كل اشعاعات التجربة الفنية، كون (الإنسان يصبح فيها أكبر من الدورة الخالدة للميلاد والموت)، كما يقول ارنست فيشر في كتابه (ضرورة الفن)..
ـ فوق سرير الدهشة/ يتدلى حلم
ذو خيوط/ مفتولة بالانحناءات/ ص58
ـ كل هذه المصابيح الثرثارة
كل هذه المدن المرئية
كل النهارات المزهرة
بالألوان والياسمين
وترسمني بالأسود والاسود؟  /ص58ـ ص59
فالشاعر من خلال نصه يدرك جمالية الصورة الايحائية، التي تنتجها اللفظة ومن ثم البناء الفني القائم على الايجاز والاختزال الجملي والحذف والإضمار والرمز، فضلا عن تكثيف العبارة وعمق المعاناة وصدقها.. لذا كان مبحرا في عالم التأمل.. وهو منقطع في غربته.. متحسسا مأساته والآخرين من خلال تجربته الصوفية الصادرة عن انفعال شفيف.. فاستطاع توحيد لحظات الزمن في لحظة تعادل اعماقها تجارب حياتية عرفها.. وهو يعبر عن معاناته لوطأة الوجود، كي يثبت ذاته من خلال تعبيره عن مشاعره واحاسيسه بوضوح.. فكانت صوره مكتظة بالصراع النفسي والهم
 الإنساني.