رمزيَّة الملح في تراث العراق

منصة 2023/07/04
...

   بهاء زهير أحمد القيسي


إن أساس جذور الحياة لهذا العالم المعروف هو العراق المصدر الأكثر غنى في النشوء والترقي الحضري البشري، ولم يكن مستغرباً هذا، لكون التجربة الإنسانية عميقة في هذا الجزء من تاريخ الأرض الحضري.
الناس في حديثها اليومي تستعمل عبارة (صارت ماصخة)، وهي تدل في مجملها على سوء حال ما أو كناية عن شيء تجاوز فيه الحد، ولم يعد مقبولاً أو لا ملامح فيه، وملامح هي الأخرى اشتقاق من الملح موضوع المقال.
و(ماصخ) معجمياً تعود في الأصل لكلمة (مسخ) والتي تعني من قل جماله أو طعمه من أكل أو غيره.
 تجدر الإشارة إلى أن السومريين أول من استخدم الملح في اصطلاح أدبي مجازٍ، تم فيه اختصار مشهد كبير من الواقعية.
جاء في الأدب السومري العراقي القديم لفض الملح بصيغة لفض mun وفي الأكدية "طابتو" حسب ما عرف في قاموس "لابات" المختص بهذه اللغتين.
ووصل لنا هذا النص الشعري من خلال رقيم طيني يتغنى بمكانة الملح الطقسية في بلاد ما بين النهرين: "أيها الملح يا من خلقت من مكان نظيف/ طعاماً للآلهة جعلك (أنليل)/ بدونك لا تمتد مائدة في (إيكور)/ بدونك لا ينشق إله أو ملك أو سيد أو أمير/ أنا فلان ابن فلان.. وقعت أسيرا للسحر/ ووقعت مهموماً في أحابيله/ أيها الملح حل العقدة مني/ ارفع المجد و(السبخ) لك"..  
(السبخ) هو الملح.. ولطالما قلنا (أرض ضبخة) بمعنى ملحية غير قابلة للزراعة.. أو قولنا (ما يصبخ)، أي لا يستطيع المقاومة أو التعلق بحال.. لكون الملح إن حل في أرض من الصعب إخراجه إلا بعد عمليات بزل وري مجهدة.
كان السومريون يقدمون الملح قربانا إلى معابد الآلهة تكريماً، لكونه من أغلى المواد وأثمنها وأكثرها حساسية واستعمالا.
لكون دخولها مباشرا في عصب العيش اليومي في الصناعة، مثلا كدباغة جلود الحيوانات. وحفظ المواد الغذائية إلى أوقات الجدب وقلة المحاصيل في أوقات الفيضان أو الحروب.
عندما حلّت الأديان السماوية على البشر، كان للملح دور ديني مهم في الطقوس والتوصيف والتقريب وضرب الأمثلة والموعظة الحسنة، لكونه يتمتع ببطانة فهمية عميقة وبجذور مادية لحاجة روحية.
جاء في العهد الجديد. سفر متي 13:5، ومن كلام السيد المسيح (ع): "أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح لا تصلح بعد لشيء، الا لأن يطرح خارجاً ويداس من الناس"
وورد أيضاً عدد 18:19: "وهكذا أعطيك أنتَ وأبناءك وبناتك حقاً أبدياً، ويكون هذا ميثاق ملح أبدي، وهذا النص في الدين المسيحي يعني حفظ العهد إسلامياً".
جاء ذكر الملح أيضاً، من خلال فرات العراق كرمزية كبيرة للعذوبة معاكساً للملح، وذكره الله تعالى في كتابه الحكيم وبموردين، في سورة الفرقان: (الآية 53- هذا الذي مرج البحرين هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج)، وفي سورة فاطر الأية 12)
(وما يستوي البحران هذا عذب فرات سابغ شرابه وهذا ملح أجاج، ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حليه تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون).
في موروثنا الفولكلوري والذي هو أرشيف كبير لمجموعة من القصص القديمة والأساطير والثقافة المادية، ضمن العادات والتقاليد، نجد أن الملح حاضراً فيها، بصيغة حكاية أو مثل أو حتى كتجربة دوائية أو سلوكية.
جاء في الأمثال العراقية (بيننا خبز وملح، أو قولهم ما غزر الملح) وهنا كان الملح رمزية واضحة تلازم النبل والوفاء، وقيل أيضاً (سكين وملح) كتعويذة لطرد الأرواح الشريرة.
لو نعرج على السلوك الاجتماعي الشعبي، نجد أن الناس تبتعد عن طلب الخمرة، العجين، الإبرة، والملح.. بعد غروب الشمس، تجنباً للبس من الجن والإصابة بحال الفقر لمن يطلبها.
وكذلك وضع الملح.. في حذاء الشخص غير المرحب في قدومه وتسريع مغادرته وعدم رجوعه مجدداً.
كما وقد تحول الملح لجواز سفر من خلال ملاحظة شعوب المنطقة قيمته المادية والروحي. لدى العراقيين القدماء.
وفي فهم فلسفي مثير للجدل.. الرومان، مثلاً بعدها في فترة متقدمة زمنياً.. قدموه أجراً لجنودهم، وكان يسمى في اللغة اللاتينية (salarnm ) ومن هذه الكلمة وإلى الآن يسمى الراتب في لغة الاقتصاد والعمل
(salary) .
عالمياً، وبعد قرون عديدة يتحول الملح لعنصر مهم في الثورات وتتحرر الشعوب، كما فعل غاندي عام 1930 في مسيرته المعروفة لتعليم الشعب كيفية استخراج الملح من البحر، وعدم شرائه من التجار الإنجليز المستعمرين.
مجدداً.. نعود إلى العراق أصل موطن كل شيء. نجد العديد من المواقع والمناطق في البلد، سحبت الملح اسما لها من خلال ما استخرج منها أو اشتغال أهلها فيه.
فقضاء "الدوز أو طوز خور ماتو" تعني في اللغة التركمانية الملح، والتمر، والتوت.
أما "الشورجة" من الشور، وهي الأرض الذي يعلو وجهها الملح.
وأخيراً.. مهما تجولنا في أخبار الملح نعود لحقيقة ثابتة هي أن العراق ملح الحياة.

            * ‏منقب آثار