حبيب السامر
إنها لحظة الضياء الأول في هذا العالم الواسع، حين أطلت من نافذة صغيرة وسط غرفتها الضيقة، المطلة على شارع يصحو على صخب مدوٍ، لا يترك لها فرصة كي ترمم أحلامها التي عاشت معها ليلة البارحة، وهي تركض في حقل طويل، كأنما تلاحق بالونات ملونة تتقافز على العشبة وتلامس بعض أشجار صغيرة، كان الماء يمر من خلال أصابعها الغضة، تمسك قبضة ماء وتطلقها في الهواء، هذا المرح ظل يلازمها كل الليل، وما أن صحت حتى خفت كل شيء باستثناء هذا الهرج وأصوات الباعة وصرير عجلات العربات الخشبية.
كانت تطيل التفكير في قبض لحظة وعصرها مرارا كي لا تفلت ثانية وهي تعيش صمتا مطبقا في داخلها، وهو يستفزها دائما، يداهمها في كل مرة، تنظر بعينين مجهدتين إلى حجم الوقت المتصبب من بين يديها الناعمتين كلما أبصرت العربات الثقيلة وهي تمر في جو مشحون يتقاطع من الجلبة التي تحدث كل صباح، نعم، هذا المنظر يتكرر في كل يوم، وهي تعيش المشهد وكل الأحداث التي تجري خلف تلك النافذة الصغيرة، تارة يتقطع الصوت المبثوث من جمهرة تختلق المناسبة لتروج عن بضاعتها.
هكذا في كل مرة، تحاول أن تعيش لحظتها دون كل هذا العناء، لكن الجدار البعيد وهي ترصده أيضا، يتغير لون طلائه دائما، وتحاول أن تقرأ بعض الإعلانات والكلمات المكتوبة، تتأوه، وهي تجد الألوان تمسح سابقتها بضربة فرشاة غير آبهين بالجهد الذي يبذل برسم الحروف الجاذبة.
لم تكن اللحظات المهدورة في مسك حلم ليلتها الماضية تجري كما ترغب في تحقيقه في الواقع، على الرغم من قناعتها بالأحلام تبقى أسيرة الوسادة ولا تتجاوز حدود الغرفة الضيقة، لكنها وبحكم تكرار هذا الطيف الرقيق، الذي يرسم خطواتها تظل تمسح عن عينيها غشاوة الصباح الأولى كي لا ينطفئ النور المنبعث من سطح ذاكرتها التي تشع كلما خفت الحلم، وتنظر إلى يدها التي لم تمسكها يد أخرى، كما تسمع وتشاهد هذه المشاهد التي تتكرر مرارا، حتى أنها تعصر يدها بيدها، كي تتعرق وتهفو روحها بعيدا في حلم يشق هدأة السكون، بلحظات تتملكها الرغبة في أن تكون فراشة في حقل الحب وهو يشلُّ كيانها وتتسمر أمام حلم لم يصمد كثيرا.
قد يتشعب في يومياتها الملل، وهي تنظر إلى نافذتها الصغيرة وتراقب حركة الناس هناك، ثمة أفكار تطرق رأسها، وحلم يلح عليها بمصادفة في وقت تدخل مطعم (مارينوس) وهو يطل على لوحة الطبيعة في الجانب الآخر، تعود ثانية إلى صباحها الحزين ذاته وقد تلاشى كل شيء، الحلم المحصور بين كفين متعرقتين، وحيز لا يتعدى مسافة وجع يتكرر، تذكرت بعض كلمات قد تخثرت على سطح يومياتها في البحث عن السعادة المرهونة بعدم النظر في ارضاء الآخرين، فكرت كثيرا قبل أن تطلق لساقيها الريح وهي تقفز على مساحة بحجم غيمة.