مسلم بن عقيل «ع».. سفير الحسين الى الكوفة

ريبورتاج 2023/07/22
...

  إعداد: وسام الفرطوسي

ارتأى الإمام الحسين (ع) أن يُرسلَ مندوباً عنه إلى الكوفة يهيّئ له الأجواء، وينقل له واقع الأحداث؛ ليستطيع أن يقرّر الموقف المناسب، ولا بُد لهذا السفير من صفات تُؤهّله لهذه السفارة، فوقع الاختيار على مسلم بن عقيل (ع)؛ لما كان يتصف به من الحكمة والشجاعة والإخلاص.
كان (ع) من أجلة بني هاشم، وكان عاقلا عالماً شجاعاً، وكان الإمام الحسين (ع) يلقبه بثقتي، وهو ما أشار إليه في رسالته إلى أهل الكوفة. ولشجاعته اختاره عمه أمير المؤمنين (ع) في حرب صفين، ووضعه على ميمنة العسكر مع الحسن والحسين (عليهما السلام).

خروجه للكوفة
خرج أبو عبد الله مسلم بن عقيل بن أبي طالب «ع» من المدينة المنوّرة متوجّهاً إلى الكوفة في الخامس عشر من شهر رمضان 60ﻫ، ويصحبه قيس بن مسهر مع دليلين يدلّانه الطريق.
خرج (ع) من المدينة المنوّرة حاملاً رسالة الإمام الحسين (ع) إلى أهل الكوفة، وجاء فيها: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى المَلَإِ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُؤْمِنِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ هَانِئاً وَسَعِيداً قَدِمَا عَلَيَّ بِكُتُبِكُمْ، وَكَانَا آخِرَ مَنْ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ رُسُلِكُمْ، وَقَدْ فَهِمْتُ كُلَّ الَّذِي اقْتَصَصْتُمْ وَذَكَرْتُمْ، وَمَقَالَةُ جُلِّكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنَا إِمَامٌ فَأَقْبِلْ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنَا بِكَ عَلَى الهُدَى وَالحَقِّ، وَإِنِّي بَاعِثٌ إِلَيْكُمْ أَخِي وَابْنَ عَمِّي وَثِقَتِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَإِنْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ وَذَوِي الْحِجَى وَالْفَضْلِ مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا قَدِمَتْ بِهِ رُسُلُكُمْ، وَقَرَأْتُ فِي كُتُبِكُمْ، أَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَشِيكاً إِنْ شَاءَ اللهِ».
وصل (ع) إلى الكوفة في الخامس من شوال 60ﻫ، فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وأقبلت الناس تختلف إليه، فكلّما اجتمع إليه منهم جماعة، قرأ عليهم كتاب الإمام الحسين (ع) وهم يبكون، وبايعه الناس حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألف رجل.
كتب مسلم (ع) كتاباً من الكوفة إلى الإمام الحسين (ع)، جاء فيه: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَه، وَقَدْ بَايَعَنِي مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفاً، فَعَجِّلِ الْإِقْبَالَ حِينَ يأتِيكَ كِتَابِي، فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مَعَكَ، لَيْسَ لَهُمْ فِي آلِ معاوية رَأْيٌ وَلَا هَوىً، والسَّلام‏».

كتب عملاء الحكم الأُموي
أرسل العملاء إلى يزيد رسائل تُخبره عن مجيء مسلم (ع)، منها: «فَإِنَّ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ قَدْ قَدِمَ الْكُوفَةَ، فَبَايَعَتْهُ الشِّيعَةُ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَإِنْ يَكُنْ لَكَ فِي الْكُوفَةِ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَيْهَا رَجُلاً قَوِيّاً يُنَفِّذُ أَمْرَكَ، وَيَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِكَ فِي عَدُوِّكَ، فَإِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَجُلٌ ضَعِيفٌ أَوْ هُوَ يَتَضَعَّف».
كتب يزيد بن معاوية رسالة إلى واليه في البصرة عبيد الله بن زياد؛ يطلب منه أن يذهب إلى الكوفة ليُسيطر على الوضع فيها، ويقف أمام مسلم (ع) وتحرّكاته. ومنذ وصول ابن زياد إلى قصر الإمارة في الكوفة، أخذ يتهدّد ويتوعّد المعارضين والرافضين لحكومة يزيد.
لمّا سمع مسلم بن عقيل «ع» بوصول ابن زياد وما توعّد به، خرج من دار المختار سرّاً إلى دار هانئ بن عروة المذحجي ليستقرّ بها، ولكنّ جواسيس ابن زياد عرفوا بمكانه، فأمر ابن زياد بإلقاء القبض على هاني بن عروة وسجنه.
لمّا بلغ خبر إلقاء القبض على هانئ بن عروة إلى مسلم، أمر (ع) أن يُنادى في الناس: «يَا مَنْصُورُ أَمِت‏»، فاجتمع الناس في مسجد الكوفة.
فلمّا رأى ابن زياد ذلك، دعا جماعة من رؤساء القبائل، وأمرهم أن يسيروا في الكوفة ويُخذّلوا الناس عن مسلم، ويُعلموهم بوصول الجند من الشام.
فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرّقون، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وزوجها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول له: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر؟ فيذهب به فينصرف، فما زالوا يتفرّقون حتّى أمسى مسلم وحيداً، ليس معه أحد يدلّه على الطريق، فمضـى على وجهه في أزقّة الكوفة، حتّى انتهى إلى باب امرأة يُقال لها: طوعة، وهي على باب دارها تنتظر ولداً لها، فسلّم عليها وقال: يا أمة الله إسقيني ماءً، فسقته وجلس.
فقالت: يا عبد الله، قم فاذهب إلى أهلك؟ فقال: يا أمة الله، ما لي في هذا المصر منزل، فهل لك في أجرٍ ومعروف ولعلّي أُكافئك بعد اليوم؟ فقالت: ومَن أنت؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، فأدخلته إلى دارها.

مقاتلته لجيش ابن زياد
وفي الصباح عرف ابن زياد مكان مسلم (ع)، فأرسل جماعة لإلقاء القبض عليه، ولكنّ مسلم أخذ يُقاتلهم قتال الأبطال وهو يقول:
«أَقْسَمْتُ لَا أُقْتَلُ إِلَّا حُرَّا ** إِنِّي رَأَيْتُ المَوْتَ شَيْئاً نُكْرَا
كُلُّ امْرِئٍ يَوْماً مُلَاقٍ شَرَّا ** أَخَافُ أَنْ أُكْذَبَ أَوْ أُغَرَّا‏»(10).
حتّى أُثخن بالجراحات، فألقوا عليه القبض وأخذوه أسيراً إلى ابن زياد.
أُدخل(ع) على ابن زياد، فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً، ومسلم (ع) لا يُكلّمه. ثمّ قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه، ثمّ أتبعوه جسده، فأخذه بكر بن حمران الأحمري ليقتله، ومسلم يُكبّر الله ويستغفره، ويُصلّي على النبي وآله ويقول: «اللَّهُمَّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ غَرُّونَا وَخَذَلُونَا».
ثمّ أمر ابن زياد بقتل هانئ بن عروة فقُتل، وجُرّت جثّتاهما بحبلين في الأسواق.
استُشهد عليه السلام في التاسع من ذي الحجّة 60ﻫ، ودُفن بجنب جامع الكوفة في العراق، وقبره معروف يُزار. ووردت في زيارته هذه الفقرات التي تدلّ على عظمته وفضله عند الله تعالى:
«اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا اَلْعَبْدُ اَلصَّالِحُ، اَلمُطِيعُ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ وَلِلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، وَعَلَى رُوحِكَ وَبَدَنِكَ. أَشْهَدُ وَأُشْهِدُ اَللهَ أَنَّكَ مَضَيْتَ عَلَى مَا مَضَى بِهِ اَلْبَدْرِيُّونَ وَاَلمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللهِ، اَلمُنَاصِحُونَ فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ، اَلمُبَالِغُونَ فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ، اَلذَّابُّونَ عَنْ أَحِبَّائِهِ، فَجَزَاكَ اَللهَ أَفْضَلَ اَلْجَزَاءِ، وَأَوْفَرَ جَزَاءِ أَحَدٍ مِمَّنْ وَفَى بِبَيْعَتِهِ، وَاِسْتَجَابَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَأَطَاعَ وُلاَةَ أَمْرِهِ.
أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَالَغْتَ فِي اَلنَّصِيحَةِ، وَأَعْطَيْتَ غَايَةَ اَلمَجْهُودِ، فَبَعَثَكَ اَللهُ فِي اَلشُّهَدَاءِ، وَجَعَلَ رُوحَكَ مَعَ أَرْوَاحِ اَلسُّعَدَاءِ، وَأَعْطَاكَ مِنْ جِنَانِهِ أَفْسَحَهَا مَنْزِلاً، وَأَفْضَلَهَا غُرَفاً، وَرَفَعَ ذِكْرَكَ فِي اَلْعِلِّيِّينَ، وَحَشَرَكَ مَعَ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلصِّدِّيقِينَ وَاَلشُّهَدٰاءِ وَاَلصّٰالِحِينَ وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً».