فجر محمد
لم تكن رسالة آنية، أو مجرد حدث ديني وفاجعة أليمة أصابت أهل بيت رسول الله وسبطه الحسين وأولاده وإخوته، بل كانت قضية عميقة ترتكز على العدل والمساواة ونصرة المظلوم والاقتصاص من الظالم، ولم تكن معركة حصلت في أزمان غابرة وحسب بل امتدت آثارها إلى يومنا هذا، لقد جابه الإمام الحسين(ع) مختلف التحديات وأصعبها من أجل نصرة المظلومين، وإعلاء راية الحق رغم الفاجعة الكبيرة التي أصابته هو وآل بيته، لكن ذكره العطر وتحدياته ما زالت شاخصة حتى يومنا هذا ومنها نستلهم الكثير.
مواجهة التحديات
تناولت العديد من الدراسات والأبحاث والمصادر المختلفة، سيرة الإمام الحسين(ع) وكيف استجاب لمناشدات أهل العراق الذين ذاقوا الأمرين من النظام الأموي آنذاك، فقد مكث الإمام في مكة المكرمة قرابة أربعة أشهر، وكانت تصله وقتها رسائل من أهل البصرة، فضلاً عن مخاطبات الكوفيين له، فأرسل ابن عمه وسفيره مسلم بن عقيل ليستطلع الأمر.
وفي خضم ذلك حاول الصحابة أن يثنوه عن الخروج إلى العراق، لكنه أبى ذلك لأنه وعد أهله واستجاب لنداءاتهم.
تشير الروايات إلى أن خروج الحسين(ع) قد تم في ليلة الثامن والعشرين من رجب، وفي رواية أخرى في الثالث من شعبان سنة ستين للهجرة، مع اثنين وثمانين من أهل بيته وأصحابه بمن فيهم النساء والأطفال من المدينة متوجهاً صوب مكة المكرمة.
ومعه أبناؤه وإخوته وأبناء أخيه وجلّ أهل بيته وبعد خمسة أيام وصلت قافلة الحسين (ع) إلى ديار مكة وكان ذلك في الثالث من شعبان من سنة ستين للهجرة، فاستقبله الناس وحجاج بيت الله الحرام، وأهل مكة والمعتمرون فيها واجتمعوا عنده.
وعندما استعد الإمام الحسين(ع) للخروج من مكة المكرمة، والتوجه إلى العراق خاطب أخاه محمد بن الحنفية وكتب له: "أنّ الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسوله وأنّي لم أخرج أشرًا، ولا بطرًا ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي محمد (ص) أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي الرسول محمد وسيرة أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين".
دعوات الثورة
لم يكن خروج الحسين (ع) وآل بيته، إلا لإصلاح الأمة وتذكر المصادر التاريخية ومنها موسوعة الحسن والحسين للشيخ حسن الحسيني، أنه في يوم الخروج كان هناك رفض كبير من الصحابة والمقربين للإمام، ولكنه أصر على نصرة المظلومين ومن استنجد به، ولم يخرج الإمام لوحده بل كان معه بنوه وأهله، وإخوته فقد اختاروا أن يكونوا بصحبته، وألا يتركوه بمفرده ليذهب إلى مصيره المجهول.
كان يهدف عليه السلام إلى تحقيق العدالة، ورفع الظلم والحيف عن المسلمين والخروج عن الوضع الراهن ومحاولة تغييره بكل وسيلة متاحة، وفي الإرث الحسيني فإن الثورة لم تقم إلا لإصلاح الأمة، ويذكر المؤلف محمد مهدي شمس الدين في كتابه المعنون "ثورة الحسين.. ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية" أنه مُنذ أن بدأ الحكام المسلمون يبتعدون عن النزعة الإنسانيّة في الإسلام، ليحوّلوه إلى مؤسسة تخدم مآرب فئة خاصة، بدأ الإمام علي وأبناؤه عليهم السلام وأصحابهم يدافعون عن الإسلام ويردّون عنه شرّ مَنْ يريد تحريفه وتزويره. كان هذا هو عمل الإمام علي (ع) طيلة حياته، وقد عاصر الحركة التي بدأها أعداء الإسلام، الدخلاء فيه والمتسترون والحاقدون، وطلاب المنافع العاجلة في حربهم ضدّ الإسلام وضدّ مبادئه الإنسانيّة. ويذكر أن الإمام الحسين(ع) قد عاصر هذه الحركة منذ نشوئها هو وشقيقه الحسن (ع).
نبذ العنف
أكدت المصادر التاريخية، أن الإمام الحسين كان ينبذ العنف ويرفضه تماماً وأن خروجه وتوجهه إلى العراق، لم يكن سوى لإحلال السلام والعدالة الاجتماعية، إذ عندما غادر الحسين المدينة المنورة، متوجهاً إلى مكة المكرمة وبقي فيها لفترة ما ثم توجه إلى العراق، في اليوم نفسه تم قتل ابن عمه وسفيره مسلم بن عقيل، علماً أن خروجه عليه السلام قد أربك الأمويين كثيراً، وبحسب تلك المصادر فقد مر بأكثر من 19 موقعاً، متوزعة من مكة إلى العراق، وأثناء التجوال كان ينشر رسالته الإنسانية ويتحدث بالعدل والمساواة الاجتماعية.
وفي كتابه مأساة كربلاء يقول المفكر الهندي وحيد الدين خان: "إن الرسائل التي وصلت للإمام الحسين من أهل الكوفة لنصرته كانت أكثر من 150 رسالة، لكن أخاه الأكبر الحسن كان يحثه على التخلي عن فكرة القدوم للكوفة، لأنه استشعر الخطر على أخيه وآل بيته"، وعندما اقنع الإمام الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل بالذهاب إلى الكوفة وأخذ البيعة له سراً، علم يزيد بن معاوية بالأمر فأرسل جيشاً يقوده عبيد الله بن زياد ليحطم رؤوس أهل الكوفة على حد تعبيره، وعندما وصل الجيش قام بقتل سفير الإمام وهو مسلم بن عقيل ومضيفه هانئ بن عروة أمام مرأى الناس، وأراد بهذا الفعل أن يبين لهم عواقب إتباع الإمام الحسين، وأن الثمن سيكون غالياً جداً وهو حياتهم جميعاً.
ما بعد الفاجعة
بعد وصول الإمام إلى كربلاء بدأ الشد والجذب بينه وبين جيش يزيد، حتى تقدمت تلك القوات إلى مقربة من معسكر الإمام الحسين، وفي صباح اليوم التالي العاشر من محرم بدأت المناوشات بين الطرفين وانتهت بعد الظهر، باقتحام مخيمات الحسين فقتل الإمام وجميع من رافقه من بينهم الإمام العباس(ع)، وابن الإمام الحسين (علي الأكبر)، وابن أخيه القاسم بن الحسن (ع) وغيرهم.
أما ما حدث بعد استشهاد الإمام، فقد أوضح المستشرق هاينس هالم بأن من قتل في تلك الواقعة تم دفنه في المكان نفسه، الذي حصلت فيه المجزرة، وقد شيد قبر كبير للإمام الحسين ويعد اليوم من أهم المزارات الدينية في الوقت الحاضر، بينما نقل رأسه (ع) إلى قصر يزيد بن معاوية، أما النساء الأسيرات ومن بينهم السيدة زينب أخت الإمام الحسين وابنه الذي بقي هو الوحيد على قيد الحياة، وهو علي الأصغر(ع) فقد نقلوا إلى الكوفة ومن ثم إلى دمشق.
هناك الكثير ممن يأخذون من مصيبة الإمام الحسين وآل بيته القشور فقط، ويعتمدون البكاء والعويل، إلا أن تلك الواقعة الأليمة التي حلت بسبط الرسول وآل بيته، لم تكن بالأمر الهين بل كانت عظيمة ولكنها بعثت برسالة عميقة إلى المسلمين والمؤمنين، أن يرفضوا الظلم وأن يدافعوا عن حقوقهم، ولا يسمحوا لأي شخص بأن يسلبهم إياها فضلاً عن أنها لم تكن معركة عسكرية فقط، بل كانت فيها دروس لترسيخ الطاعة والاحترام الأسري بين الإمام الحسين وأهله وإخوته، فالترابط الذي كان حاضراً وبوضوح بينه وبين إخوته كان يهدف إلى ايصال رسالة عميقة مفادها احترام الأخ والإمام واتباعه، وعدم التخلي عنه مهما كانت
الظروف.