{التشابيه} مَوروثٌ عراقيٌّ قديم ودراما تمثيليّة ملهمة
رحيم رزاق الجبوري
تصوير: نهاد العزاوي
يعد تسليط الضوء على الموروث العراقيّ (الشفاهيّ والمادي)، وإحياؤه، من أولويات العمل الثقافيّ، في أي مؤسسة، أو منظمة، تعنى بنشر وتعزيز وإشاعة ثقافة وتراث بلدها؛ وذلك باعتباره الذاكرة الحقيقيّة والحيّة لتاريخ وتراث هذا البلد. ولأن بلادنا العريقة مُتخَمة بهذا الإرث العظيم، والموروث الهائل، سنتطرّق - في البداية- إلى بعض التعريفات للـ"موروث أو التراث الثقافيّ"، فمنهم من يعده: كل شيء يخلفه الأجداد؛ لكي يكون عبرة من الماضي، ونهجا يستقي منه الأبناء الدروس والمواقف الملهمة والعظيمة؛ ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل.
وآخر يصنّفه على أنّه مرادفٌ للثقافة، باعتباره مجموعة من عناصر السلوك المُكتسب المُميّز لأفراد مجتمعٍ ما.
وغيره يعتبرهُ شكلًا ثقافيًّا يتناقلُ اجتماعيًّا، ويَصمدُ عبر الزمن.
ومن الناحية العلميّة، هو علمٌ ثقافيّ قائمٌ بذاته يَختصُّ بقطّاعٍ معيّنٍ من الثقافة -الثقافة التقليديّة أو الشعبيّة- ويلقي الضوء عليها من زوايا تاريخيّة، وجغرافيّة، واجتماعيّة، ونفسيّة.
كما يُعرّفُ أيضًا، بأنّهُ عنصرٌ من عناصر الثقافة التي تتناقلُ من جيلٍ إلى آخر.
وللموروث الثقافيّ، أقسام عدّة، منها: حضاريّ، وثقافيّ، وشعبيّ. وتقسيمات مُتفرّعة كالموروث العمرانيّ، أو المعماريّ، أو الطبيّ، أو الرياضيّ.
الثقافة الحسينيّة
جميعُ الدول تحرصُ على إظهار موروثها الثقافيّ من فولكلورٍ، وتراثٍ، وأزياء. لأنّه يعتبرُ الركيزة الحيّة لهذه الشعوب، حيث تعملُ هذه الدول على إقامة نشاطات ومهرجانات مستمرّة لإدامة وتطوير وتعزيز هذا الموروث، وإدراجه ضمن أجندتها الثقافيّة.
وعليه تُعَدُّ "التّشابيه" أحد الموروثات الثقافيّة المُهمّة المُنبثقة من "ثقافتنا الحُسينيّة".
وصورها الحيّة المُتجدّدة في كلِّ عامٍ. مُتمثّلة بمشاهد العزاء الحُسينيّ التي تُقام؛ وهي خيرُ دليلٍ على ثراء وأصالة وعمق تراث وتاريخ بلادنا العظيمة. إذْ يحرصُ المسلمون - في العراق وبعض البلدان العربيّة والإسلاميّة- على إقامة هذه "التّشابيه" في صبيحة العاشر من شهر مُحرّم الحرام، من كلّ عامٍ. وتختلفُ الأنماط والأساليب والأدوات المُستخدمة لهذه العروض الدراميّة من بلدٍ لآخر، من ناحية استخدام التقنيّات الفنيّة، والمؤثّرات الصوتيّة، والموسيقى المؤثّرة المُصاحبة للعرض.
فضلاً عن وجود الراويّ -الذي يسردُ الواقعة- لما له من أهميّة بالغة، ووقع خاصّ ومؤثر في سير الأحداث وتتابعها. وقد تتفاجأُ (عند مشاهدتك لبعضٍ من هذه العروض، لا سيّما في بعض المحافظات العراقيّة)، بأنّك أمام صناعة سينمائيّة حقيقيّة -خصوصًا عند تصويرها ومشاهدتها في التلفاز- وهي بالأساس دراما تمثيليّة، غير خاضعة لقوانين الفنّ السينمائيّ والمسرحيّ الصارمة.
أصل الدراما
التدريسيّ في كُلية الفنون الجميلة، في جامعة بغداد، أ.د راسل كاظم، يجري مقارنة بين "التّشابيه" وما جاء في كتاب (فنّ الشِعر) لأرسطو "مُفكِّر، ومؤلِّف، ومُعلِّم، وفيلسوف رائد، ومؤثِّر من أبرز فلاسفة قبل الميلاد (384 ق.م-322 ق.م)"، ومدى التداخل في بُنية وفكرة الكتاب مع "التّشابيه" قائلًا: "يُقسّمُ الكتاب (الشِعر)، إلى ثلاثة أنواع، هي: الغنائيّ، والملحميّ، والتراجيديّ. وما يَهمّنا هنا، هو الشِعر التراجيديّ الذي يُعَدُّ عمود الدراما، وهو ما استفاضَ به مؤلِّف الكتاب في الشرح. حيث عَرّفَ التراجيديا، على أنّها محاكاةٌ لفعلٍ جادٍّ، تامٍّ في ذاته، له طول معيّن، في لغةٍ مُمتعةٍ؛ لأنّها مشفوعةٌ بكلِّ نوعٍ من أنواع التزيين الفنيّ. وتتمُ هذه المحاكاة بشكلٍ دراميٍّ، لا في شكلٍ سرديٍّ، وبأحداثٍ تثيرُ الشفقة والخوف، وبذلك يحدثُ التطهير".
تشبيه ومحاكاة لفعل جاد
ويمضي أستاذ الفنون المسرحيّة، في مقارنته، وتفكيكه لهذا الرأي، إذ يقولُ: "إنَّ للتراجيديا ثلاث وحدات: وحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة الحدث. كما لها أجزاء أخرى، وهي: الحبكة، الشخصيّة، اللغة، الفكر، المرئيّات المسرحيّة، الغناء. وفي مقارنة فنّ الشِعر مع "التّشابيه" نَجدُ أنَّ "التّشابيه" الحُسينيّة: هي تشبيهٌ، ومحاكاةٌ لفعلٍ جادٍّ، قامَ به الإمام الحُسين (ع) بخروجه ضد الظلم، يُقدَمُ بطريقة (الفعل)، أي (دراما)، لا بطريقةٍ قصصيّة سرديّة، يشعرُ المُتفرِّج بالوجلِ، مُتعاطفًا مع ما يحدثُ أمامه، ويشعرُ بالخوف والذهول، وبالأسى، وصولًا إلى الحزن العميق، الذي يحقّقُ التطهير".
الزمان والمكان والحدث
ويتابعُ كاظم، دلالاته المعرفيّة في هذا السياق، بقوله: "إنَّ (وحدة الزمان): حيث يتمُ هذا الفعل في وقتٍ معلومٍ، وهو صباح يوم العاشر لغاية الضحى. و(وحدة المكان): المكان المفترض واقعة الطفّ بالتقاء الجيشين في أرض كربلاء، ويمكن تقديمها في أيّ مكانٍ يشبه المكان المفترض، أيّ ليس هناك انتقالٌ إلى مكانٍ آخر غير مكان المعركة. و(وحدة الحدث): فالحدث واحد، هو المأساة التي جرتْ على الإمام الحُسين وأهله وأصحابه (عليهم السلام)، بتفاصيلها لغاية مقتله.
فأجزاء «التّشابيه»: (الحبكة) وهي طريقة تقديم الحادثة، و(الشخصيّة): شخصيّة الإمام الحُسين (ع)، وشخصيّات مجموعته وشخصيّات أعدائه. و(اللّغة): الحوارات التي تُلقى بين مؤدّي الواقعة (الحُسين، العبّاس، الشمر، زينب، الحرّ الرياحيّ، وغيرهم. و(الفكر): وهو موضوعة الحادثة، والخروج ضد الطغيان «إنّي لمْ أخرجْ أشرًا، ولا بطرًا، ولا مُفسِدًا، ولا ظالمًا، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريدُ أنْ آمرَ بالمعروف، وأنهي عن المنكر؛ فمن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا، أصبرُ حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ، وهو خير الحاكمين». كذلك (المرئيّات المسرحيّة): كلُّ ما هو مرئيٌّ من الخيام، والنيران، والخيول، والأزياء، والسيوف، والرماة، والسِهام. وأخيرًا (الغناء): هو النعي، الذي يرافقُ "التّشابيه" الصوت البشريّ الشجيّ، الذي يتمُ به الإلقاء".
المحاربة من قبل السلطات
ويختتمُ الأكاديميّ كاظم، بحثه، بالقول: "إنَّ "التّشابيه" الحُسينيّة ابتدأتْ بسيطة، بعد عامٍ من استشهاد الإمام الحُسين (ع)، وتطوّرَتْ إلى شكلِ محاكاةٍ تامّةٍ في بداية العصر العباسيّ. وقد حُورِبَتْ من قبل سلطاتٍ مُختلفةٍ، بحسب نوع السلطة؛ أي أنَّ في زمن ذروة عروض "التّشابيه" لم يكنْ لدى الأوروبيّين أيّ شكلٍ من أشكال الفُرجة؛ كونهم في عصورٍ أسموها هم بـ (العصور المُظلمة) وما نُقِلَ عن كتاب (فنّ الشِعر)؛ [يُعَدُّ هذا الكتاب، من الآثار المنسوبة إلى أرسطو، ويعتبرهُ العرب من الكتب المنطقيّة، إذْ دخلَ إلى العربيّة ضمن حركة الترجمة في العصر العباسيّ الأول] هو تنظيرٌ لاحقٌ للممارسةِ الفرجويّة للـ"تشابيه" مع إضافاتٍ بسيطة".
بين المسرحِ الإغريقيّ
و«التّشابيه» الحُسينيّة
يَعدُّ الفنّان المسرحيّ صادق مرزوق "التّشابيه" بأنّها شكل من أشكالِ المسرح. وإنْ كانتِ الانطلاقة لهذه الفعاليّة التمثيليّة بدأتْ بشكلٍ عاطفيّ، فهذا لا يمنع كونها شكلًا مسرحيًّا، ويسترسلُ مرزوق في بحثه، قائلًا: "إنَّ المسرح الإغريقيّ أساس انطلق أيضًا ضمن السياق العاطفيّ الجماهيريّ خلال الاحتفالات الربيعيّة بالإله "ديونسيوس"، الذي يمثّلُ قوى الخير والخصوبة، والمقاربةُ بين «التّشابيه» والمسرح لدى الإغريق، بأنَّ الفعاليّتين انطلقتا بأسلوبهما التراجيديّ على وفق مبدأ catharsis التطهير. حيث تُقدَّمُ المسرحيّة عند الإغريق، كونها مأساة تسهمُ في إثارة العاطفة لدى الجماهير.
ومن ثم البكاء من هول المأساة، وبعد هذه العمليّة يتمُّ مبدأ التطهير بجانبه الإنسانيّ الدالّ على إنكار فعل الشرّ، والتوجّه نحو فعل الخير. وهنا أساس الفعل المسرحيّ لدى أرسطو كونه صراعًا بين قوتين عبر تاريخ البشريّة، وهما الخير والشرّ".
الإثارة والإقناع
ويضيفُ مرزوق، ببيان أوجه المقاربات الأخرى بين المسرح الإغريقيّ، و"التّشابيه" إذْ يقولُ: "إنَّ أهم مبدأين أساسيين، أكّدَ عليهما أرسطو، في كتابه (فنّ الشِعر)، وهو الكتاب الذي حَدّدَ مبادئ الفنّ المسرحيّ الدراميّ لدى الإغريق.
هما مَبدآ (الإثارة، والإقناع). فالإثارة، تكون عن طريق الراويّ، أو الفعل الدراميّ في المسرح الإغريقيّ من جهة. وفي المقابل يكون عن طريق القارئ على المنبر الحُسينيّ، أو عن طريق الفعل التمثيليّ في "التّشابيه". وبعد ذلك تأتي عملية الإقناع وتوجيه الجماهير الحاضرة لمشاهدة الفعاليّة نحو التمييز بين فعلي الخير والشرّ، والتفاعلُ العقليّ، والانفعال العاطفيّ.
وهنالك مقاربات عديدة بين الفعاليّتين؛ كون المسرح بدأ في فضاءٍ مفتوحٍ، و"التّشابيه" تعتمدُ على الفضاء المفتوح أيضًا، واستخدام الأزياء، والإكسسوارات، وبقيّة مُكمّلات الفعل الدراميّ".
رؤية Peter Brook
ويختمُ مرزوق، حديثه بتأكيده: "أنَّ فعلَ "التّشابيه" هو شكلٌ من أشكال مسرح الشارع، والفضاء المفتوح بأغلب التفاصيل الفنيّة. مُستشهِدًا برؤية المخرج والمُنظِّر المسرحيّ الراحل بيتر بروك [Peter Brook (2022-1925)، مخرج مسرحيّ، ومخرج أفلام، ومونتير، وكاتب سيناريو، وكاتب، من المملكة المتّحدة]، الذي يشتغلُ ضمن فضاءاتٍ مفتوحةٍ في أغلب أعماله، حينما زار مدينة طهران، وقد شاهدَ «التّشابيه» الحُسينيّة، وأعجبَ بها كثيرًا! فكتبَ عنها بكونها فعلًا مسرحيًّا مُتكاملًا، مبدأهُ الإثارة، وغايته الإقناع، ومرتكزهُ الدهشة لدى المُتلقّي".
امتداد لمسرح الشارع
يقولُ المسرحيّ عباس الدخيل: "إنَّ "التّشابيه" الحُسينيّة؛ هي جزءٌ من التراجيديا الشعبيّة لطقوس الشعائر الحُسينيّة، ومسرح جوّال للتعزية، الذي هو أقدم المراثي الدراميّة في العالم الإسلاميّ. و"التّشابيه" هي مفردة اقترنتْ مع عاشوراء الإمام الحُسين (ع)، وتعتبرُ نوعًا من التمثيل الدراميّ، يحاولُ الممثّلون تجسيد واقعة الطف التاريخيّة؛ بإطلالةٍ شعبيّةٍ، تتجاوزُ الصناعة السينمائيّة، وأبجديّة الكتب، وأثير المحاضرات.
وقد نجدُ معادلًا للتعزية، في المسرح الأوروبيّ، وخاصّة في المسرحيّات الدينيّة. أمّا مسرح التعزية، أو "التّشابيه" فقد فاقتْ كلّ أنواع التراجيديا لجميع الطقوس من خلال الملاحم التي تُقدَّمُ في أغلب المُدن العراقيّة، وبقيّة البلدان الإسلاميّة، بطريقةٍ فطريّةٍ عقائديّة، في ساحة مفتوحة، أو تجمّع شعبيّ يُسمى (الموكب) داخل المدينة، أو بين حاراتها، ويشكّلُ الجمهور دائرة مستديرة للمشاهدة، والتفاعل مع هذا العرض المسرحيّ الفطريّ".
رؤية أكاديميّة
الكاتبُ والمخرج المسرحيّ كفاح عبّاس، له رأيٌ سديدٌ بهذا الخصوص، إذ يقول: "إنَّ "التّشابيه" مظهرٌ مسرحيٌّ، يتناولُ حدث واقعة الطف وملحمة عاشوراء، بشخوصها المعروفة. ويعتمدُ على النصّ، وأغلبها تستندُ إلى ما جاء في المجالس [السنيّة للعترة النبويّة]، للسيّد محسن أمين العامليّ.
وتجسّدُ «التّشابيه» الشخوص من خلال الحوار والمظهر، أي الأزياء التي تعتمدُ الدقّة التاريخيّة في ذلك الزمن. ومن العناصر المسرحيّة لهذا المظهر الإكسسوارات، التي تضعُ تصورًا لبيئة الواقعة من خلال الرماح، والسيوف، والخيام، والمفردات التي يرويها الراويّ حسب تسلسل الحدث".
كانت أكثر إقناعا ودهشة
ويضيفُ عباس: "أنَّ الهدف من هذا المظهر المسرحيّ هو شحن العاطفة والتطهير، وهذا مهمّ في العرض المسرحيّ حيث يقومُ الممثلون بأداء الأدوار، باستخدام الحركات والإيماءات حسب ما يذكره الراويّ، إضافة إلى وضع تصوّرٍ للبيئة، يكونُ سماعيًّا، وليس مرئيًّا من خلال الوصف الذي لم يكنْ موجودًا في ساحة التمثيل.
و«التّشابيه» -سابقًا- كانتْ أكثر إقناعًا ودهشةً على عكس اليوم؛ حيث يقومُ المشرفون عليها بنسخ الشخصيّات من مسلسلات معروفة عُرِضَتْ على الشاشة، أو الارتجال، ويبتعدون عن الواقعة أو الدقّة التاريخيّة؟ فهم يبالغون برسم الشخصيّات، وإظهارها حسب ما لديهم من إمكانيّات، وهذا مجرد تبرير. وهم مستمرون بإحياء ذكرى عاشوراء؛ ولكن على حساب الذوق أولًا، ومخالفة الواقع للحدث".
دعوة للاستفادة
من ذوي الاختصاص
وتطرّقَ عبّاس لبعض العروض التي تفتقدُ لأبسط الأشياء والأدوات، التي تدخلُ في خانة العرض المسرحيّ وأدبيّاته، واستسهال القائمين عليها، مّا يُعرّضُ "التّشابيه" للنقد والتهكّم؛ بقوله: "يفترضُ بالقائمين على تنفيذها، استشارة واعتماد ذوي الاختصاص والخبرة؛ من مخرجين ومُمثِّلين، يتم اختيارهم حسب إمكانياتهم وقدراتهم على الأداء التعبيريّ والحركيّ، باعتبار التمثيل يكون على طريقة (اللبسبنك): وهي بثُّ الصوت عبر مكبِّر، بواسطة الراويّ، أو صوت الشخصيّة، وما على المُمثِّل سوى ضبط الحركة والإشارات؛ أي تنسيق الحركة مع الصوت. بتعبيرٍ آخر: هو لَبْسُ الحركةِ بالصوت. وقديمًا كان الحكواتيّ، أو الراويّ يروي بصوته الحيّ، لكن بعد اختراع مُكبّرات الصوت، وتقنياتها؛ وُظِفَتْ هذه الطريقة في السينما، والتلفزيون وكذلك استُخدِمَتْ في "التّشابيه" بعد أنْ وَفّرتْ جهدًا كبيرًا على القائمين بتنفيذها، وهذه الطريقة تُستخدمُ حاليًا، في الأفلام والفيديو كليب. كما تُعَدُّ "التّشابيه" من أهم المظاهر المسرحيّة في العراق، بعد ملحمة گلگامش؛ نظرًا لاعتمادها على نصٍّ مكتوبٍ، وكذلك وجود المُعطيات الأخرى من مفرداتٍ، وإكسسواراتٍ، وأزياء، ومؤثّرات، إضافة إلى جمهورٍ مُهيّأ لمشاهدة هذا العرض".
ممثلون يتشرّفون
بتجسيد واقعة الطف
يحرصُ فرج اليوسف -مُمثِّل مسرحيّ- (43 عامًا)، على المشاركة في هذا المحفل الحُسينيّ؛ في كلِّ عامٍ، مُجسّدًا دور الصحابيّ الجليل عابس [وهو من أنصار الإمام الحسين (ع) وشهداء كربلاء.
ينتمي عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، إلى بني شاكر، وهم بطنٌ من هَمْدان، كان من الشخصيّات البارزة في الكوفة، كما أنّه كان رجلًا خطيبًا ناسِكًا مُتهجّدًا]، إذْ يقولُ اليوسف: "لطالما تشرّفتُ، بتجسيد دور هذا الصحابيّ الجليل. محاولًا بكلّ إمكانيّاتي، أنْ أقترب من شخصيّته الفذّة، ففي «التّشابيه» لا بَدَّ من أنْ تعيشَ الدور، بواقعيّة أكثر. وعن نفسي يراودني هذا الشعور، فهو إلهامٌ ربانيّ وتوفيقٌ منه؛ بالرغم من أنّني أمثّلُ أدوارًا مختلفة في المسلسلات الدراميّة العراقيّة، وأعيشُ مع الشخصيّات التي يُناطُ إليَّ تمثيلها، لكن في "التّشابيه" هناك هاجس مختلف، يمتزجُ فيه الحُبّ الفطريّ، لأهل بيت النبوّة (عليهم السلام)، مع ملامسة مصيبتهم وفاجعتهم العظيمة. فكأنّك تعيشُ الواقعة بكلِّ تفاصيلها ومآسيها الكبيرة. كما ينتابني إحساس غريب، أثناء تأديتي للدور؛ فأنّي أتحاشى أنْ أسبّبَ الأذى، لأيّ شخصٍ يشاركني في أداء الواقعة، مع استمراري بالبكاء طيلة العرض المسرحيّ، مُستذكرًا المعركة، بكلِّ تفاصيلها المؤلمة".
ذاكرة بغداد القديمة
يُحدّثنا الأستاذ نبيل عبد الكريم الحسيناويّ (باحثٌ في تراث بغداد القديمة، وتاريخها)، عمّا تكتنزهُ ذاكرته ومشاهداته الحَيّة، في هذا المجال، إذْ يقول: "يجمعُ مؤرّخو بغداد القديمة، على إقامة "التشابيه" في نهاية القرن التاسع عشر، إذ يعودُ عمرها لأكثر من قرنٍ من الزمن، ونُظِّمَتْ في مناطق مفتوحة بجانب الكرخ، وفي منطقة الفضل
تحديدًا".
ويضيفُ الحسيناويّ: "وأُقيمَتْ أيضًا، في منطقة الباب المُعظّم، من قبل (الحاج حسن المعيديّ)، وذلك في الستينيّات. حيث يَعتلي الخطيب الحُسينيّ المِنبر، مُتخذًا من أحد المقاهي المُحَوَّرة، مَجلِسًا للتعزية، في شهر مُحرّم الحرام، بعدها تُقدّمُ وجبة غداء، مكوّنة من القيمة، والفاصولياء، والرزّ المُضمّخ بالزعفران، إضافة إلى الشاي المُعَبّق بالهيل، والعِطرة". ويشيرُ عبد الكريم، في ختام حديثه، لبعض مشاهداته، بالقول: "وقد شَهدتُ "التشابيه" منذ الستينيّات؛ في مناطق الفضل، والگبي، والعوينة، (والأخيرة: هي موقع بناية أمانة بغداد، ودوائرها، تقعُ بالقرب من ساحة الخلانيّ، حاليًا)، حيث كانتْ تقامُ "التشابيه" في (جامع المصلوب) مع تقديم وجبات الطعام. وفي التسعينيّات، لم يتسنَّ لي متابعة أيّ ممارسةٍ لهذه الشعائر؛ بسبب تحجيمها، وإلغائها من قبل سلطات النظام السابق".