جواد علي كسار
(1)
خاطب الإمام الحسين أخاه أبا الفضل العباس في اليوم التاسع من المحرم وطلب منه أنْ يخاطب جيش عمر بن سعد في تأجيل المواجهة إلى اليوم التالي؛ أي إلى العاشر من المحرم، إذ قال عليه السلام في ذلك: «ارجع إليهم فإنْ استطعت أنْ تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عنا العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».
كان الوقت مساءً والشمس قد أرهقها المشهد الكئيب، وأثقل خطاها مسيرُ ذلك اليوم الثقيل فراحت تتوارى خلف أفق الصحراء، وتبتعد عن رحاب الأرض لئلَّا تشهد الكارثة المفجعة، ولتترك الأرض للقمر في ليلته العاشرة يرافق الحسين السبط، يشهد دعاءه ومناجاته.
قبيل المغيب وقف الحسين سيد الشهداء في أصحابه وأهل بيته خطيباً ليخبرهم أنَّ القوم لا يريدون قتل غيره، وأنَّ بوسع كلّ واحدٍ منهم أنْ ينسحب تحت جنح الظلام، وينجو من القتل، إلا أنهم رفضوا وأجابوه بكلمات ملؤها الإصرار على الثبات معه على مصيره الذي يلقاه.
جنّ الليل؛ ليل العاشر من المحرم، أرخى الظلام سدوله وهدأ الطير والهوام، ونامت جفون الخلائق كلها إلا آل محمد صلى الله عليه وآله وأنصارهم، باتوا ليلتهم بين داعٍ ومصلٍ وتالٍ للقرآن ومستغفر، فكأنَّ لهم دوياً كدويّ النحل.
باتوا تلك الليلة ضيوفاً في أحضان كربلاء، وبات التاريخ أرِقاً ينتظر الحدث الكبير، وما يتمخض عنه ميلاد الصباح.
باتت سيوفهم ورماحهم أقلاماً تتهيأ لتخطّ في صفحات التاريخ بمداد الدم المقدس والنجيع الأحمر، أروعَ فصلٍ كُتِبَ في عمر الإنسان.
(2)
انقضت ليلة الهدنة وطلع ذلك اليوم الرهيب، يوم الجمعة أو الاثنين، يوم عاشوراء، يوم الدم والشهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنة والرماح تقطر حقداً وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين سبط الرسول، وتفتك بدعاة الحق والثوّار من أجل رسالة الله وكرامة الإنسان.
نظر الحسين سيد الشهداء إلى الجيش الزاحف بأحقاده الأموية والسفيانية، تأمله طويلاً، ولم يزل كالطود الشامخ، وقد اطمأنت نفسه وهانت دنيا الباطل في عينيه، وتصاغر الجيش أمامه، فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم:
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفس طالما وقف ابن بنت رسول الله وهو يشيد بأصحابه، وكثيراً ما سمعناه يقول: «أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي».
في ساعات هذا اليوم المتفجّع بالحزن الصارخ على سيد الشهداء بودنا أنْ نطوف على مواقف لأولئك الأصحاب سجلها التاريخ وأبقاها حية في ذاكرة الأجيال ووعيها. لقد آذنهم الحسين ورسم لهم طريق الحياة مرّات واضعاً الخيارات أمامهم، إذ اقترح عليهم مرة أنْ يأخذ كلّ واحدٍ منهم بيد رجلٍ من أهل بيته، فما كان من مسلم بن عوسجة وقد تقدّم ثلة الأنصار، إلا أنْ تكلَّمَ بقوله: «وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟
أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن بيدي سلاح أقاتل به لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك».
وتبع مسلماً سعيد بن عبد الله الحنفي، قائلاً: «والله لا أتخلى عنك حتى يعلم الله أننا قد حفظنا وصية رسوله فيك، أما والله لو علمت أني أُقتل ثمّ أُحيا، ثمّ أُحرق حياً، ثمّ أُذرى يُفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك.. وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟».
ونهض زهير الذي كان قد التحق بالركب الحسيني للتو ولم تمض على انضمامه إلى معسكر الحسين سوى أيام، فقال: «والله وددتُ أني قُتلت ثمّ نُشرت حتى أُقتل كذا ألف مرة، وإنَّ الله عز وجل يدفع ذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك».
من مواقف أولئك الكرام أنَّ أحد الأشاوس فيهم محمد بن بشير الحضرمي جاءه وسط المعركة في تلك الساعة العصيبة الحرجة، نبأ ابنه وقد أُسّر بثغر الري، فقال له الحسين: أنت في حلٍّ من بيعتي فاعمل في فكاك ولدك.
وهنا وقف الرجل بين عاملين؛ بين عطفه على ولده ودفاعه عن عقيدته، وقد حصلت له الرخصة من إمامه فماذا يختار؟
كان جوابه: «لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السباع حياً إنْ فارقتك».
أما وقد انكشفوا بهذه البصائر الراسخة والعزم الذي لا يلين، بعد أنْ تكلموا واحداً بعد آخر، فقد كشف لهم أبو عبد الله عن مآل غدهم وما هم إليه صائرون، فقال: «إني غداً أُقتل وكلكم تُقتلون ولا يبقى أحدٌ منكم».
قالوا بصوتٍ واحد: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرفنا بالقتل معك، أولا نرضى أنْ نكون معك يا ابن رسول الله؟
(3)
لم تُرهب ابن بنت رسول الله والمصطفين الأخيار من أصحابه كثرة الجيوش، ولم توهن عزيمة ابن أمير المؤمنين كثافة الصفاح والأسنة، بل استشرف من عليائه الروحي المتعالي، ورفع يدي الضراعة والابتهال، وراح يناجي ربه: «اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعقدة، كم من همٍ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمّن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة».
(4)
بعد ثلاثة قرون من واقعة الطف نظر الشريف الرضي إلى أرض الطفوف، ومصارع جدّه الحسين والشهداء، فحزَّت اللوعة بنفسه، وراح يناجي رسول الله صلى الله عليه وآله، ويعزيه بالحسين الشهيد:
وضيوف لفلات قفرة
نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا
بحدّي السيف على وُرد الردى
لف الشمس شموساً منهم
لا يدانيها ضياء وعلا
وتنوش الوحوش من أجسادهم
أرجل السبق وإيمان الندى
ووجوهاً كالمصابيح فمن
قمر غاب ونجم قد هوى
يا رسول الله لو عاينتهم
وهم ما بين قتيل وسبا
من رميض يمنع الظلّ ومن
عاطش يُسقى أنابيب القنا
لرأت عيناك منهم منظراً
للحشى شجواً وللعين قذا
ليس هذا لرسول الله يا
أمة الطغيان والبغي جزا
جزّروا جزر الأضاحي نسله
ثمّ ساقوا أهله سوق الإما
يا قتيلاً قوّض الدهر به
عمد الدين وأركان الهدى
قتلوه بعد علم منهم
أنه خامس أصحاب الكسا
حملوا رأساً يصلّون على
جده الأكرم طوعاً وإبا
ميت تبكي له فاطمة
وأبوها وعلي ذو العلى
لو رسول الله يحيا بعده
قعد اليوم عليه للعزا